مرسيل خليفة ||
أين نجد مدينتنا يا صديقي ؟
ـ لن نجدها إلاّ عند مفترق الطرق !
هذا الرجل الذي يشي مظهره بالكتمان والحنان ، يقصّ علينا بصوره قصص الحرب اليومية وعلى هذا النحو من الجمال .
لقد امتلكت الكاميرا حواسه وكلفته ثمناً باهظاً في تلك الظهيرة عندما انفجرت عبوة ناسفة في الطريق الجديدة وأصيب إصابة بالغة . ولكن الحظ أسعفه وطاب جرحه الذي نزف طويلاً .
وذات مساء بعيد أتى برفقة صبيّة جميلة إلى الطابق الثالث في بناية عزيزي بالمصيطبة ليسلمني مجموعة من الصور كان قد التقطها في حفلة الاونيسكو . وهمس في أذني وكل من كان حولنا سمع همسه من شدّة الولع : ” سمر ” أحلى صبيّة ولديها قلب طيّب . . وكان جمال محقّاً في استجابة نداء قلبه الذي نبض ولم يهدأ من عصف الغرام والوئام .
كنّا نجتمع في أيّام القصف العشوائي في غرفة صغيرة نثرثر بحماس عن تلك الطفولة التي مرّت سريعاً .
أين تذهب الذكريات عندما ننساها ؟
الفقد المبكر لأمهاتنا والحرب وخيبة الأمل من تلك الأيام العصيبة والحاجة الملحّة إلى الحب والرغبة الشقيّة في العثور على الوردة بين الركام . وقد صور جمال على هذا النحو من القلق والحيويّة والموهبة الاكيدة حتى بات واضحاً انها صور تعكس في مجملها معاناته وانها ليست من ثمرات كاميرته الفنية فحسب .
يأتي كل مساء محملاً بالحلوى من محل ” موزار ” المفضّل لديه وبدورها كانت ” يولاّ ” تحرص على توفير الاطباق التي كان جمال يهضمها كالمجدرة والفاصوليا القاطعة وكنت ادندن لأخفّف عن جمال ثقل النهار . وعندما تقترب الساعة من منتصف الليل يذهب الى منزله القريب في الليالي الموحشة ، وكنّا نخشى أن يقع له مكروه . وفي كثير من الاحيان لم يكن يتمكن من الحضور باكراً في المساء بسبب شدّة القصف وما أن يهدأ قليلاً ينسل من صوره ويهرب من الجريدة كما يهرب التلميذ من الدرس ونجلس معاً ولو لنصف ساعة . ورغم انهماكه الليليّ في تحميض الصور وتظهيرها بتلك الغرفة المعتمّة كان يأتي مشمولاً بالنور .
كانت أصوات الصغار تصلصل كالجرس يلعب معهم وينفجر بالضحك لأبسط دعابة .
وكم من الدموع ذرفنا على أصدقاء ورفاق رحلوا مع الأيام وظلّوا معنا في صور بالابيض والاسود .
كانت حماقاتنا لا حدود لها في هشاشتنا ونحن نترنّم بأغاني مغمورة وبأمل ويأس كبيرين . وكانت ايقاعات تلك الاغاني تنبعث من الاعماق وخاصة عندما يزرونا والدي الآتي من الطرف الآخر من المدينة وكان النغم الحافي يعطي الامان لميشال الذي تحمّل عناء اجتياز معبر المتحف تحت القنص . قطرات من رحيق دمع العنب تتدفق وكنا نجد في ” الكاس ” النور الذي لا يطفأ .
إن الذكر؟ى يا جمال ما تزال حلوة وعذبة لتلك السهرات الدافئة في بيروت الغربية حيث كان صوت القذائف يصم الآذان . نتحمّل هذيان العاصفة ونغني للنسى خوفنا من قذيفة تمزقنا إرباً . وكان صوت القصف يستدرجنا إلى درج البناية المثقوب بالرصاص الطائش إلى ملجأ مظلم يفتحه لنا ” أبو علي ” ناطور البناية الذي أتى من الشيخ طابا بعكار ليسكن معنا وليشاركنا في هذا الرعب القاتل . وكان الخوف والترقّب في الملجأ يفتحان الاغنية لليل طويل . وفي اليوم التالي نرى صدى إيقاع القذائف على حائط البناية ونكتب على الصور سيرة النسيان كدوّي أنغام .
يا صديقي وقد تجاوزت الستين من عمر سريع كما تقول الاغنية نقف معك لنحفظ كل هذه الذاكرة وما تبقّى منها ومن فتات الصور .
أخ كم كبرنا يا جمال وكم كنّا ملائكة آنذاك حين صدقنا الحروب الصغيرة والكبيرة وحين آمنّا بأننا سنطير الى الاعلى لنطال وردة الحفافي في وطن النجوم . كل ما في الامر أننا لا نصدق اليوم ذلك .
كم نام في سرير الارض ورقد رفاق لنا وفي حفرة من سماء.
نمشي اليوم على طرقاتنا القديمة ولن نغيّر شيئاً من الامس سوى رائحة الزبالة وعفن الساسة وطغيان الفساد .
كم كانت أحلامنا أصدق من هذا الواقع البائس والذي لم يستطع أن يغيّر أحلامنا .
تذهب اليوم يا صديقي الى التقاعد من وظيفتك في وكالة ” رويترز ” تذهب خفيفاً نظيفاً بعد أكثر من ٤٠ سنة عمل متواصلة ولا تريد شيئاً إلاّ أن تحرّر صورك من عبث المكان .
أين الموّال المفتون بالحب .
أين الحب ؟ يركض الموّال في اندلس الحب وينادي : يا حب ! آه يا حب ! لماذا لا تسمعنا ؟ نزيح الازمنة وما زلنا ننتظر !
أولادنا ، أحفادنا توزعوا في أرجاء المعمورة :
أيمن وعائلته في شيكاغو . ديما في دبي . إيهاب في لندن . رامي وعائلته في سيدني . بشّار وعائلته في نانتير .
الرياح ازدحمت حوالينا والطرقات تحترف الحنينا .
هل تحسّ يا صديقي بثقل الهواجس .
أعرف بأنك تعبت من الامل . أجد كلمتي عارية واصرخ لك يا حب . ” يا مرضنا المريض ”
في النهاية لا عمر يكفي لكل هذا الحب .
ينكسر الضوء في ” رويترز ” كي ينام فاغرف ما تسع راحتيك لتصب الضوء في بحر بيروت وواصل حمل ” كاميرتك ” وصوّر ما شئت واعفي نفسك من الاعتذار عن خطأ لم ترتكبه .
ما هذا العالم الذي لا يطاق ! يسحق المرء تحت جزمته بلا رحمة . وما الذي يشدّنا إلى هنا ، إلى مدينتنا . مدينة الصراع المستمر بين النزوع التدميري وتلك الرغبة المتأججة في إشعال شمعة ولعن الظلام في آن !
لقد أدمنتنا الحروب ، نحن حطبها وجمهورها بالشكل والواجهة واختلطت الامور ليتعرّى الآخرون في مآزقهم ولتنتصر الصورة في عدستك اللاقطة . تدوس على جغرافية السياسة وأفواه السياسيين وبرامج الحروب الصغيرة والكبيرة والمستمرّة .
يا جمال العاشق نبض الحياة والذي رأيت وسط الفراغ والسأم مبرراً لبقاءك لأنك سألت : ثم ماذا ؟ وحاولت أن تجد الجواب في كل مرّة لكي تسأل من جديد : ثمّ ماذا بعد ؟
كل الحروب خاسرة حتّى لو انتصر الانسان فهو خاسر .
استعدت معك اليوم يا ” جميل العيون ” ذكرياتنا الساقطة من دخان المعارك . زمن مضى ولكنّه جاثم على صدورنا . كم شهدت صورك فصولاً عديدة من حروب وكانت كل البنادق محشوّة بالدموع . دموع أجمل الامهات . والحرب لا تنام ترصد الاحلام وتقتلها .
يا جمال الريح تجري بنا وحفيف العشب اليابس تحت أقدامنا ونحن نسافر والذي يسافر فينا هو نشيج صورة واغنية التيه .
لا نريد أن نصدق ان الصورة وسيلة للانتصار على شيء ولا الاغنية ففي كل ذلك غربة .
لقد انكسرنا كما ينكسر السرو العالي وما زالت أحلامنا تدفعنا الى السماء وبلادنا تدفعنا إلى بئر الخيبة . . . !
لك يا صديقي في تقاعدك المضني صورة وردة معدّة للحب وسنونو حنين يشبه الاغنيات وحب أكثر .
17\3\2019
Facebook Comments
POST A COMMENT.