مرسيل خليفة ||
ملحم ابو رزق
نفخ روحه في جرار الكلمات فامتلأت خوابي الأخبار والنداء وصوت الشعب .
ارتبك الحبر ” بشفّة ” قهوة وسيكارة .
أيتها الكلمة : أنتِ صنيعة شهوته الغائرة .
منذ تركناه ذات مساء عتيق يفترش الغرفة . يخلو الى نبضها ويجوس الورقة وروحه على شجر الوقت مشلوحة كالنعاس الخفيف .
لن ننسى بأنه جعل من قلمه سياج بهائنا في المرّ من أيامنا .
كيف نحرس حنينه ؟
عندما كان يشّع في يده كأس نبيذ ويشفّ صمته ويعلو في فضاء الليل . والليل مبلول بكلماته . مبلول بأحلام الفقراء .
وتشّع ” الفِكرَةْ ” فيسحبها الى حيث الكلام يصوغه على الورقة . يسحبها قليلاً ثمّ تسحبه ويعانق ألقها ويضيء بين يديها وتضيئه . تزحف كذئبة نحوه . تلاحقه كظلّه وتدخل طقسه .
كُثُرْ مَرُّوا من هنا ! ربطوا خيلهم وما أقاموا في كهف الجريدة الاّ قليلاً .كتبوا على الدرب أسماءهم ومضوا .
لم يبق سواه !
وفيّ هواه وقلبه طفل .
غاب ملحم اليوم .
أي نجم يدل عليه .
ابسط الآن كفّك . ابحث عن قصاصة ورق واكتب ثمّ أغمض عينيك ونم متعثراً بحرير أحلامك .
كيف جئت الى المدينة حاملاً حبّك منتعلاً قلمك متلعثماً برؤياك العطشى في سديم الروح والمعنى .
هذي المدينة ما تجلّى من غوايات . زنى معها ملوك الزمان وأسكرت الجيوش دماؤها . ومن زنى معها ينوح . وما رأيت سوى الخرائب .
كنت هشّاً ، صلباً ، جميلاً . ترى من بعيد سيوفهم تنأى ووميضها يخبو وتستره السفوح . تسمع لحن حدائهم في البعيد يعرّج خائباً. وصدى صهيل خيولهم اذ بعثرته الريح .
” وشراب يلاّ شراب / بكرا بتصير تراب . اتذكر تلك الاغنية وسرّ العشاء الأخير في صوت الشعب والليل ينفض عنه رذاذ النعاس والمدى ينحني لزمان بهيّ يعلِّق اعلامنا في سماه .
منذ مليون لقاء وورد ومنذ نبيذ كثير ضممت لموقدك نار روحي حين أشعلت عند جدار الحكاية حبّاً وأغنيات .
ملحم ابو رزق
شكراً لك .
17\8\2018
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
زاهي وهبي ||
رحل ملحم أبو رزق، رحل الصديق والرفيق والمناضل العتيق المعتق كخابية نبيذ، كلما فرغت امتلأت من جديد بالشغف والحماسة والعزم والإصرار ومواصلة مسيرة الحبر والورق المكتنز بالمعاني النبيلة والمواقف الناصعة النفيسة، والمجبول بعرق الكدح اليومي والكفاح الناصع لأجل الفقراء والمظلومين والمستضعفين في الأرض.
رحل المتواري خلف ظله، لا يبغي جزاء ولا شكوراً. جلّ همه ما يؤمن به وما يسعى إليه، وعمره ما سعى لمنصب أو موقع أو جاه، هو المستحق أكثر من ذلك بكثير، ويكفيه أنه الجندي المجهول بلا نصب ولا تذكار سوى السيرة العطرة والمسيرة العصماء، والنضال الخَفِر الصامت الدؤوب لأجل الآخر قبل الأنا، أناهُ التي تلاشت حتى اضمحلت في الـ”نحن” مُذْ اعتنقَ الكلمة الملتزمة الصادقة حتى الرمق الأخير.
تغيرت الدنيا وتغير الناس، ولم يبق حجر على حجر من عمارات أحلام كثيرة، وبقي هو الرفيق الحقيقي والوفي ليس لمبادئه فحسب، بل لكل أصدقائه ورفاقه القدامى الذين كان يسارع إلى عناقهم واحتضانهم كأب ملهوف وحنون في زمن تشوّهت فيه العلاقات الإنسانية وساد النفاق والرياء والتكاذب الاجتماعي، فيما بقي كبيرنا ـــــ الذي علّمنا التفاني ــــ ريفياً نقياً رحباً كمعظم أبناء بلدته المتين المعانقة لسحاب جبل لبنان.
رحل ملحم أبو رزق،
رحل المناضل المنسوج من قماشة نفيسة نادرة لم تنل الأيام من ثوبه ولا من قلبه أو عقله، كثُر المناضلون الافتراضيون والاستعراضيون وباعة الكلام في أسواق المزايدات، لكنه لم يسأم ولم يتعب، اكتفى من دنياه بنضاله الصادق الحقيقي العميق الملتزم حتى الذوبان المطلق ونكران الذات لأجل الجماعة التي كانت له أكثر من بيت وأسرة وفراش أحلام سعيدة.
عملت معه وإلى جانبه لسنوات ست متتاليات في جريدة “النداء” التي كانت بيتنا، لا مكان عمل أو وظيفة، كانت سنوات عجافاً على الوطن والناس، وسماناً في التجربة والمِراس. سهرنا حتى مطلع الفجر والجريدة، لم تكن التقنيات متطورة كما هي حالها اليوم، كان الحبر يعلق بأطراف أصابعنا ورائحة الورق تفوح كأرغفة خبز ساخنة، وكم كنا نفرح حين يأتينا بيان جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية بنبأ عملية ناجحة ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي. فَنُطرِّز لها العناوين ونزركش الكلمات، وكم كنا نحزن لفقدان زميل أو رفيق، وخصوصاً أولئك الذين سقطوا خطأ في غير التراب الذي كانوا يشتهون الاستشهاد عليه: جنوباً… نحو فلسطين.
رحل ملحم أبو رزق،
رحل مَن لم يفقد البوصلة يوماً وما أخطأ الاتجاه، وكنا معاً في خضم الفجيعة تحت دويّ القصف وأزيز الرصاص الذي انحرف عن مساره زمن التقاتل والتذابح الأخوي (!)، ذقنا رائحة النار والبارود، وعرفنا طعم الرطوبة في الملاجئ والغرف السفلية، لكن قمر أحلامنا لم يغب ليلة واحدة، كنا معاً وكان معنا سهيل عبود ونبيل حاوي والياس شاكر وحسن الشامي وإلهام أبو مراد وحسن مقلد وإبراهيم الأمين وصبحي زعيتر ومصطفى ياسين وحسن سلامة وفاطمة حوحو ومريم ابراهيم وسمير رزق ورفاق كثر لا يتسع المجال لتعدادهم، وإن اتسع لهم القلب وصندوق الذاكرة الذهبية. توزعوا في الصحف والأهواء، منهم مَن قضى ومنهم مَن ينتظر على أمل عالم أكثر حرية وحباً وخيراً وجمالاً، فيما بقي ملحم حارساً دهرياً على شرفة الحلم الجميل.
حين جفّ الحبر وشحّ الورق أو بهت لونه، أصرّ ملحم على أن يبقى صوتاً للشعب، فكانت إذاعة “صوت الشعب” بيته الجديد الذي لم يعتق ولم يتداعَ، وإن أصابت الندوب الغائرة ذاكرته وجدرانه. الرفيق المدمن على العمل لم يترك الميدان إلَّا ساعةَ تمكّن منه المرض، هو المتمرس في مكافحة الخبث ومصارعة الأمراض، قاتل على الجبهات كلها حتى حقَّ له أن يرتاح حين دبَّ فيه نعاس الوداع. رحل جسداً ليظلَّ روحاً مُحلِّقة في فضاء النقاء والصفاء والنصاعة غير الملوثة بانبعاثات الزمن الاستهلاكي الفاجر، غادرنا في عزّ الفجيعة التي فرضها الاستعمار والاستكبار المرتدي لباس التكفير والتطرف والإرهاب، المتنكر بشعارات الحرية والديموقراطية و”الربيع” المتحوّل جحيماً حاصداً ملايين الأرواح البريئة. رحل تاركاً حلماً دائماً لا يشيخ بلبنان يليق بتضحيات بنيه ودولة مدنية لا تنهشها فيروسات الطائفية والمذهبية، وبفلسطين حرَّة مستقلة، وبسوريا معافاة من كل جراحها، وبربيعٍ عربيٍّ حقيقيٍّ تُزهِّر فيه أحلام الناس وتتحرر به مجتمعاتنا من الرجعية والتخلف والفساد والاستبداد، وبسنديانة تستعيد اخضرارها وظلالها التي كانت وارفة في كل الميادين والساحات، وفي المقدمة ميدان الحبر الملتزم النبيل الذي كان ملحم أحد فرسانه الصامتين الذين لا يُعرَفون إلَّا في “حضرة الغياب”.
■ ■ ■
رحل الرفيق ملحم،
هوى غصنٌ أخضر مُزهِر مُثمِر من شجرة معمِّرة اسمها السنديانة الحمراء.
الاخبار – 17\8\2018
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
“عفيف دياب ||
هيدا الخبر لازم يتوسع ويصير تقرير لنشرة الاخبار.. ما تتأخر رفيق”. انهى المكالمة ثم عاود الاتصال :”انس يا رفيق الخبر والتقرير.. في شي اهم. يبدو تحرير الجنوب بلش. بتقدر تواكب الامر عالارض. وناطرين منك تفاصيل للنشرة.. راح اتصل بالزيات (محمود) وحسين سعد وكامل جابر. شدوا الهمة. إسرائيل انهزمت”
وداعاً ملحم أبو رزق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نعى الحزب الشيوعي اللبناني ومجلتا «النداء» و«الطريق» وإذاعة «صوت الشعب» ونقابة المحررين، الصحافي المناضل الرفيق ملحم حبيب أبو رزق، وقال الحزب الشيوعي في بيان للمناسبة: «رحل ملحم تاركاً وراءه تاريخاً طويلاً من النضال السياسي والنقابي والإعلامي، رحل من تتلمذ على يديه وتثقف العشرات والعشرات من المناضلين الشيوعيين في الميادين كافة. وبرحيله، فقد الحزب الشيوعي اللبناني والقوى اليسارية والوطنية وكل المقاومين، ومعهم الإعلام اللبناني وإذاعة صوت الشعب والنداء والأخبار، علماً بارزاً من أعلام الكلمة الحرة المناضلة على درب التحرير والتغيير لقيام دولة وطنية ديموقراطية مقاومة في لبنان، على طريق بناء الاشتراكية التي آمن بها الراحل الكبير وناضل من أجل تحقيقها حتى الرمق الأخير».
وأشار الحزب الشيوعي إلى أن الراحل «كان من الذين عملوا على إصدار أعداد جريدة النداء، يوم دنّس الصهاينة أرض العاصمة، التي أرّخت لانطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول)، وأيضاً خلال أيام عدوان تموز 2006، حيث بقي طوال 33 يوماً مقيماً في الإذاعة، متتبعاً لحظة بلحظة التغطية الإعلامية للعدوان، وعاملاً على كشف أهدافه ومراميه».
ابو رزق من مواليد عام 1945. انتسب ابن بلدة المتين، في المتن الشمالي، إلى الحزب الشيوعي في عام 1968، وتحديداً بعد المؤتمر الثاني للحزب. بدأ الكتابة في الصحافة الحزبية في عام 1969. التحق بـ«النداء» و«الأخبار» و«الطريق» في عام 1976. انتخب عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي للمرة الأولى في عام 1987 (المؤتمر الخامس)، كما انتخب عضواً في المكتب السياسي ومسؤولاً عن الإعلام منذ عام 1987 حتى 1992. انتخب عضواً في المجلس الوطني للحزب الشيوعي منذ 1992.
POST A COMMENT.