لا تصدق الكلام ، ضع ثقتك بأحلامك

مرسيل خليفة *|| أحببت الموسيقى منذ علّمني جدي سحرها الخرافي وكنت لعشقي لجدي ولغنائه أحرس الحنين إلى الطفولة بين حبّات النغم ينتحرن على قصب الغزّار فيما كان جدي يرفع صوته صادحاً ، يمخر العباب من على الشاطىء اللازوردي ويمسح السحاب عن ضفائر شمس تجدل الافق البعيد ، ثم يصعد في عرس بيدر تزّف سنابله لأغنية الحصّادين .
وبعد سنين تأخذني وعود العاصفة على صهوة حلمي المبلّل برذاذ تلك الذكريات ولأول الطنين اذ ليس في وسع الموسيقي إلاّ أن يكون موسيقياً ، هكذا علّمني جدّي :
ـ ” لا تصدق الكلام ، ضع ثقتك بأحلامك ” .
كانت الموسيقى تلمع كبارقة أمل في ذاكرتنا ، تصدر عن شهوة الاسئلة وليس قبول الاجوبة المستقرّة المنجزّة من جاهزيّة الماضي . فالحياة موقد البحث والتجريب وأمام المخيلّة البشريّة ليست ثمّة مقدسات تضع الانسان في مستوى التابع . المبدع هو سيْد القلق ومدير الحوار العميق .
اليوم صار للموسيقى العربية أن تحتفي بالمنحّى التعبيري الذي تجتازه .
لم تعد لدينا رغبة في معرفة مستقبلنا بالوضوح الحديدي الذي تسلّح به ” المحافظون ” إنه وضوح يضاهي قيداً لا يرحم ، ومن حق المحافظين أن يسمّوا ذلك خراباً ! فلقد حلى لنا ذلك.
لا يجوز التوقّف أمام الاعتراضات الهستيريّة التي تنتاب بعضهم وهم ينظرون إلى المشهد الموسيقي يشطح خارجاً من صورته النمطيّة بما لا يقاس من التنوّع .
ليس للكتابة سوى فعل الهدم الجميل الذي انتظره الوقت والمكان منذ طفولة الأشياء .
فلماذا كل هذا الضجيج لتكريس الجذور والسكوت عن حريّة الاجنحة .
هل نسي هؤلاء : أنّ الكتابة مثل الحياة ، لا تتوقّف والابداع توغّل في غموض ما لا يعرف ، فالمعروف ما تمّ اكتشافه وصار ناجزاً ومستقرّاً .
بدايات غامضة لتشير الى ذهاب نحو مستقبل أكثر غموضاً ، مستقبل لا يزعم الثبات ولا يتطلبّه . لنعثر على جدوى هذا العبث الجميل ، ذلك العبث الضروريّ كي نكون كنقطة الماء التي أخرجتنا . هل كنّا سنكون لولا هذا الجنون . نعبث لينطلق المستحيل ونكتبه على ألواح الحياة . نعبث لئلا يضيع منّا الجميل وينكسر على شروخ الوصايا . نعبث ونعبث علّ المعنى يطيب للمقام كما يطيب لنا النبيذ .
فلنصعد إلى شرفة أحلامنا ولنرفع ثقل الشعور بالغرابة ولنروّض الوقت الطويل على السرعة .
نطلق الخيال ونضيّع لاءات المجتمع وشرائعه . نتذوّق الضوء في الليل لنكسر عتمته وليبقى ليلنا جائعاً : للشهوة والنشوة والجمرة والحسرة والرغبة والقسوة والثورة والحيرة . . . ولنضع بأعمالنا ما نريد وأن لا ننسى ما علينا غداً من أثقال . وعلى المعنى العميق ألاّ يضيع منّا لمجرّد أننا لم نعد بيتاً يليق به ، فلربما لا يداهمنا ثانية ، ولربما يأتينا بوهج أقل ، نعيشه حين يفاجئنا ، كيفما اتفق ، نسجنه وندع ترويضه للآتي المستحيل .
إن ّ المستحيل ممكن إن أمكن تحرير العقل لندافع عن السحري والغامض في الفن .
لا بدّ من الشجاعة كي نخرج من أقفاصنا ونقف أمام مرآة تجاربنا عراة .
لأصدقائنا الحاضرين معنا اليوم ، يا أيها الآتون من بلدان بعيدة ، أشير هنا :
إلى عدم صحة ” نامية ” بالنسبة للثقافات العريقة والعظيمة لدى شعوب آسيا وافريقيا واميركا اللاتينيّة . فإذا كانت هذه البلدان متخلفّة في ميدان الصناعة عن البلدان الاوروبيّة والولايات المتحدة الاميركيّة فإن اعتبارها في مجال الفن بلداناً نامية غير صحيح .
إنني مقتنع بالمساواة المبدئيّة حيال الثقافة البشريّة في جميع التقاليد الموسيقيّة الوطنيّة المتعددة الوجوه وفي جميع ما اختزن من ثروات في الالحان والايقاعات والانغام التي تنطلق من حناجر المغنّين الشعبيين أو تؤديها المجموعات الفنية .
والقضيّة ليست قضيّة ” تآلف ” وعدم تآلف بين مختلف النظم الموسيقيّة ، بل كيف ، وبأيّة أساليب تحل مسألة الترابط والتأثير المتبادل بين ثقافات وشعوب تختلف من ناحيتيّ المنشأ والموقع الجغرافيّ . والحل هنا في الاسلوب الموسيقي لدى رجال الموسيقى ( المؤلف . العازف مدرّس الموسيقى وواضع النظريّات ) ومسؤوليتهم أمام الفن والاخلاص والابداع .
الخطر الاكبر هو الاسلوب التجاري المنحط الذي يغزو العالم ، اسلوب الحطّ من قيمة التقليد الانساني العظيم لدى كل شعب وهذا يمكن أن يؤدي عمليّاً على إبادة القيم الفنيّة العريقة . كما أنه لا يجوز أيضاً محاولة عزل فن هذا الشعب أو ذاك عن التبادل الطبيعي بين الشعوب للمكتسبات الابداعيّة .
لتطوّر شعوب آسيا وأفريقيا فنونها ، هي التي خلقت ثقافة رفيعة محترمة وفولكلوراً غنيّاً ، ولتتقن آداءها الموسيقي . ولكن يجب عليها أثناء ذلك ألاّ تصّم آذانها حيال المنجزات العظيمة لموسيقى الشعوب الاخرى . إن الموسيقى ليست في حاجة لأعمال صيانة موجهّة نحو عزل ثقافة عن الأخرى ، بل ، بالعكس ، ينبغي للأمم التي تملك وسائل أكثر تطوراً لنشر الثقافة الموسيقيّة والتي تملك اخصائيين رفيعي الكفاءة أن تقدم المساعدة لتلك الشعوب التي رزخت طوال قرون تحت وطأة المستعمرين والتي ليس لديها إمكانية تطوير ثقافتها الوطنيّة بحريّة كما يليق بها . ولكن يجب ان لا تتحوّل هذه المساعدة الى عدوان ثقافي بل تبقى في إطار محاولة إيجاد لغة مشتركة وخلق أرضيّة جماليّة من أجل التأكيد والحفاظ على القيم الثقافية العظيمة ، تلك التي ابدعتها شعوب العالم وتلك التي ستبدعها لا محالة . لعلّنا بالشعر والموسيقى والغناء والفنون بشكل عام نستطيع فهم وحدة الشعوب وضآلة من يلعبون على الارض . وكل من بقي يدافع عن الحلم برموش عينيه هو شاعر بمعنى من المعاني ، يدوس جغرافيا السياسة وافواه السياسيين وبرامج الحروب الصغيرة والكبيرة المستمرّة . وهذه الحروب حرقت من عمرنا سنوات وسنوات وحين خرجت اليوم الى الشارع آتياً إليكم ، لفحتني نسمة ربيعيّة ماكرة هيجّت مشاعري فتذكرت انني لا استطيع الاّ أن احلم بوطن حقيقي مغمور بالموسيقى والحب حين تتبدّل الفصول والامكنة .
أصدقائي : لا تصدقوا الكلام ، ضعوا ثقتكم بأحلامكم .
ــــــــــــــــــ
  • كلمة مرسيل خليفة في المهرجان اللبناني الدولي للغناء الجماعي
    الذي اقيم في معرض رشيد كرامي ـ طرابلس – لبنان
    السبت ٢٠ أيار ٢٠١٧

Facebook Comments

POST A COMMENT.