خليل صويلح || انشغل في ترميم صورة فلسطين في مرايا أخرى، تعمل على تأصيل الذاكرة وثقافة المكان والالتصاق بالذاكرة الشعبية، فيما راوحت قصيدته بين الحماسة والتجريب، والاتكاء إلى الموروث الأسطوري والمقدّس، من دون أن يفارقها شقاء المخيّم. أول من أمس، انطفأ الشاعر الشفيف في رام الله، منفاه الاختياري بعيداً عن مدينته التي لم يزرها إلا مرة في حياته!
وسوف تتشكّل ذاكرته عن حيفا من حكايات الآخرين في المخيّم الذي كان بمثابة فلسطين مصغّرة، قبل أن يحتل بنفسه كرسي الحكواتي ليقرأ لأهالي المخيم فصولاً من حكاية الزير سالم. سوف تسحره الأشعار المكتوبة في السيرة، ليجرّب لاحقاً الكتابة على منوالها. لكن معلم العربية في المدرسة، سيلفت انتباهه إلى ضرورة تعلّم الأوزان الشعرية.
هكذا وجد «الولد الفلسطيني» نفسه في مخاضٍ آخر، خصوصاً إثر تعرّفه إلى موريس قبق، أحد أكثر شعراء حمص رهافةً وشفافية وموهبة. وما إن اكتشف خليل حاوي (1919 ـــ 1982) حتى وقع تحت تأثيره. هذا ما يبدو واضحاً في مجموعته الأولى «الضواري وعيون الأطفال» (1964)، إلى أن انخرط بهموم المخيّم ومعنى أن يكون الشعر جماهيرياً تحت سطوة مصطلح «شعراء الثورة» في مواكبة فترة الكفاح المسلح.
لكن قصيدته الأخرى ستجد بوصلتها على مهل، عن طريق مزج الملحمي بالشعبي، مشكّلاً غنائيته المحمولة على وجعٍ شخصي، فهو أحد الذين خبروا عن كثب معنى أن تولد في مخيّم، وأن تعيش في عراء العزلة. يقول: «كان لوالدي الشيخ مهنة غريبة، فقد كان يغسل الأموات ويقدّمهم للدفن، وكان يسحّر في رمضان، ويقرأ القرآن على القبور، وكان هذا يعطي انطباعاً في المخيم أنّنا أسرة على علاقة وطيدة بالموت، وكنا فقراء إلى حد يصعب وصفه، ويمكن القول إنّنا كنا أفقر أسرة في المخيم».
في حقبة لاحقة، سينخرط في تجربة أكثر التصاقاً بالذاكرة الشعبية الفلسطينية، عبر كتابة نصوص أغاني «فرقة العاشقين» بالتعاون مع الموسيقار حسين نازك، مستمداً نسغ عاميته مما كانت تردّده جدته العمياء في ليالي وحشتها. وستحظى أغنية «والله لازرعك بالدار يا عود اللوز الأخضر» بشعبية لافتة، وبدت كما لو أنها أغنية فولكلورية فلسطينية. وسيكتب أشعاراً لمسرحية «المؤسسة الوطنية للجنون» عن نصّ لسميح القاسم، وإخراج فواز الساجر. كما سيكتب سيرة «عز الدين القسّام» في مسلسل تلفزيوني أخرجه هيثم حقي بالعنوان نفسه (1981).
هكذا التفت هذا الشاعر الشفيف إلى ترميم صورة فلسطين في مرايا أخرى، تعمل على تأصيل الذاكرة وثقافة المكان بإزاحة الغبش عن تاريخ البلاد المنكوبة، فيما تراوحت قصيدته بين الحماسة والتجريب، والاتكاء إلى الموروث الأسطوري والمقدّس، من دون أن يفارقها شقاء المخيّم. وربما لهذا السبب بقي اسمه في الشوارع الخلفية للمدوّنة الشعرية الفلسطينية… هذه المدوّنة التي اكتفت بحفنة من شعراء الواجهة، بصرف النظر عن تنويعات المشهد، فيما توارى شاعرنا إلى موقع «شعراء الظل» لجهة الشهرة والحضور الإعلامي بالمقارنة مع محمود درويش وسميح القاسم، مراهناً على الصدق وحده في تأكيد فلسطينيته التي لم يساوم يوماً على تمزيق خريطتها «فلسطين ليست فلسطين إلا إذا طُلبت كاملة». لكنه سيعود مرغماً من تعب المنافي إلى ما تبقّى من فلسطين «الجزء المتاح من الوطن»، وسيختار غزّة أولاً، مكاناً لهجرته الأخيرة، نظراً إلى قربها من حيفا التي لم تفارق ذاكرته يوماً. وستتاح له فرصة استثنائية لزيارة حيفا بتصريح مؤقت. بدا خلال الزيارة كمن في حلمٍ مستحيل، وهو يجول في البيت الذي ولد فيه، ويتفقّد الأمكنة التي سمع بها من دون أن يراها، والشوارع المفتوحة على البحر، إذ لطالما ردّد بشجن «كل حيّ وله حيفاه، إلا أنت دون حيفا».
في سنواته الأخيرة، دأب هذا الشاعر «المقيم المسافر» وفقاً لعنوان إحدى قصائده على ترويض حماسته الشعرية نحو ما هو تأملي، بنبرة هامسة تنأى عن صخب نصوصه القديمة ونزعتها الغنائية العالية، وبمقترح شعري مختلف يتطلّع إلى إعلاء شأن الملموسات، واكتشاف قوة الهامش: «تطلب الياسمينة ماء، ولا ماء. لا ضوء يكفي ليغسل وجه المكان. تضمر المزهرية، والعطر يرسله الياسمين إلى لا أحد. وكأن الزمان يتجعد في المزهرية. لو جاءت المرتجاة لهشّ لها. وانفرد. لم تجيء. لم تضيء شمعة. لم تمرّ على المزهرية، منّا يدان. كل ما كان أني هنا وهناك. جفاء ذهبت مع الياسمين، ويمكث حيث تركت، الزبد».
في مراجعة تجربته الشعرية الطويلة بزخمها وشفافيتها، سننتبه إلى اعتنائه الاستثنائي بأهمية الإيقاع في تأثيث الصورة الشعرية بما يشحنها درامياً وبلاغياً في آنٍ واحد، ويضعها في مقامٍ آخر، بناء على قناعته بأنّ «الشعر عدو الطمأنينة». رحل الشاعر الأليف في رام الله بعد مكابدات طويلة مع مرض الفشل الكلوي، وهو يرنو إلى حيفا، مردّداً «في قلبي جياد خاسرة».
«الولد الفلسطيني» الذي لم يكبر
|| عبدالرحمن جاسم
كتب «اشهد يا عالم» التي ستغنيها فرقة الأغاني الشعبية والتراثية الفلسطينية «العاشقين»، لتكرّ السبحة لاحقاً مع أغنيات من نوع «يا شعبي يا عود الند» و«والله لأزرعك بالدار»…
عمل الشاعر مديراً لمجلة «لوتس» الثقافية حتى 1988، وهو العام نفسه الذي حصل فيه على «جائزة توفيق زيّاد» في الشعر. لاحقاً عمل مديراً لدائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية (أشبه بوزارة الثقافة اليوم)؛ فضلاً عن عضويته في «اتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين».
تكمن قيمة دحبور الشعرية لا في خياله المتقن وتركيباته المعقدة كمحمود درويش، بل في اقترابه من الشارع اليومي الفلسطيني، فباتت الأغنيات المأخوذة من شعره اليومي والمعاش أقرب إلى الأيقونات. رددها الملايين من الشعب الفلسطيني والعربي باعتبارها تأريخاً للمرحلة ووصفاً دقيقاً وحقيقياً له؛ ولا يمكن نسيان مقطع «ثمانين يوم ما سمعناش يا بيروت غير الهمّة الإذاعية، بالصوت كانوا معانا يا بيروت والصورة ذابت في المية» (من أغنية/قصيدة «اشهد يا عالم»). قصيدة تحدّث فيها عن خذلان الأنظمة العربية للثورة الفلسطينية إبان الاجتياح الصهيوني لبيروت عام 1982، فيما يختم الأغنية نفسها بوعدٍ بات أشبه باللازمة الفلسطينية تجاه لبنان الذي أحب: «ودعناكي وإلنا عهد نرد جميلك هذا وعد، اشهدي يا بيروت علينا». شعرية دحبور لم تتوقف عند هذا الحد. كانت قصيدة «الطفل الفلسطيني» (كتبها عام 1964) واحدةً من أهم قصائده: «بلاد الله ضيقة على الفقراء، بلاد الله واسعة وقد تطفح/ بقافلة من التجار والأوغاد والأوباء /أياْمر سيدي فنكب أهل الجوع والأعباء؟ أنقذفهم ومن يبقى ليخدمنا؟/ إذن تصفح؟/ ويوم كبرت لم أصفح/ حلفت بنومة الشهداء بالجرح المشعشع فيّ/ لن أصفح/أنا الرجل الفلسطيني/أقول لكم: راْيت النوق في واد الغضا تذبح/ رأيت الفارس العربي يساْل كسرة خبز من حطين ولا ينجح/ فكيف بربكم اصفح؟»
أصدر دحبور ثماني مجموعات شعرية، أشهرها «الضواري وعيون الأطفال» (1964)، و«حكاية الولد الفلسطيني» (1971) و«شهادة بالأصابع الخمس» (1983). بعد اتفاق أوسلو، عاد إلى غزّة لربما لقربها من حيفا مدينته الأم، لكنه عاد واختار رام الله «كمنفى اختياري»، إذ تبعاً لكلامه: «كل حيٍّ وله حيفاه، إلا أنت دون حيفا».
لا يمكن النظر إلى الخسارة الكبيرة التي يخلّفها دحبور وراءه إلا بالنظر إلى الفراغ الذي يتركه هؤلاء الشعراء الكبار على الحالة الفلسطينية خاصةً والعربية عموماً، إذ باتت تفتقر إلى شعراء يعبرون بشكلٍ حقيقي وواقعي عن آلام شعوبها وتجاربهم اليومية.
POST A COMMENT.