رضوان حمزة ||
انا من مواليد بيروت عام 1959، تربيت في منزل في منطقة زقاق البلاط، هذا المنزل يقع على كتف بيروت، وكانت المنطقة المسماة البلد على مرمى حركة خطوتين، ورأيت خليطاً من الناس في حركة غليان وتجانس وتفاعل، هذه المشهدية اذكرها وانا في المرحلة الابتدائية، حيث كنت ادرس في مدارس المعهد العربي، وحينها كان الاهتمام التربوي مقبولا قياسا لتلك المرحلة، وكان هناك نخبة من الاساتذة، وفي نفس الوقت كان والدي رئيس مصلحة الجباة في بلدية بيروت، وكنت اتردد الى عمله ما دفعني الى رؤية البلد والوطن والعيش والمعرفة، والمشهد الاول الذي اثر بي وآلمني هو الفقر، عندما شاهدت طفلا يحمل سلة على ظهره مربوطة بحبال على جسمه، وينقل حاجيات الذي يشتري من السوق، ويأخذ اجرا زهيدا، وكل ذلك من اجل لقمة العيش، ولقد تربيت في منزل ملؤه النبل، وكنت اكتب على حيطان المنزل المبني من الرمل ابياتا شعرية للمتنبي، ولم أتفاجأ عندما ارى اولادي اليوم يقومون بنفس الشيء، بعدها اصبحت اشعر ان حركة جسمي في الهواء خفيفة ولها اشكال والعاب، وكنت اتي بالزمن الي واقوم باختراعات صغيرة من الخشب وشرطان الحديد واصنع عرباة، واضع القماش على الطاولة وانير الشمعة تحت واحرك احصنة من بلاستيك فيظهر من الشاشة معارك واحداث، واصبحت كـ«انيماتور»، اي ارى المشهد من الداخل والخارج، وكان عمري اقل من عشر سنوات، وكنت اخاف المدرسة لأنني كنت اشعر انني ملزم بالانضباط، مكان تعشق فيه الحرية، حتى الوقوف في الصف والجرس لم احبهم، ولكن ما اثر في واحببته الطريق الى المدرسة والكلام، بعدها بدأت تكبر الصورة وقويت علاقتي بالكلمة.
بداية تلمس المسرح
وبعد المرحلة الابتدائية سكنا في منطقة رأس النبع، ودرست المرحلتين المتوسطة والثانوية في مدارس الكلية العاملية ورأس النبع الحديثة ومار ثاوريوس، وهذا التنوع من المدارس كان جزءا من اضطراب علاقتي بالمؤسسات التربوية، وكنت افتش عن شيء ما، وبين المرحلتين كان لي اخ اسمه شوقي الله يرحمه وكان دكتورا في معهد الفنون الجميلة، اسس فرقا مدرسية للمسرح وقام في انتاج اعمال مسرحية، واذكر انه قدم في مدارس المعهد العربي مسرحية «دواليب الهواء»، وكان والدي يقول الشعر العامي (الزجل) الارتجالي في بلدة كفرحتى في الجنوب، وبدأت اتلمس اشياء جديدة من خلال اساتذة ادب عربي يقومون باحياء ذكرى عاشوراء التي كان والدي يمثل في هذه الذكرى وكانت تؤدى على البيادر، وهنا بدا اللقاح الهوائي يؤثر في، وكان الدكتور شوقي جزءاً من حركة اتحاد الشباب الديموقراطي، وقد شاهدت مسرحية جحا في القرى الامامية في نسختها الثانية، للمخرج جلال خوري، فبين المسرح المدرسي ومشاهداتي للاعمال المسرحية بدأ تلمسي للافق المسرحي.
وبعد خروج المقاومة الفلسطينية من الاردن تاثر الشارع البيروتي بالثورة الفلسطينية، وانخرط شقيقي بهذه الثورة، وهنا مجموعة من المشاعر تركت اسئلة في داخلي وليس لها اجوبة بالمعنى السريع، وكل هذه الجوانب شكلت العصب الاساسي للسؤال الصعب الذي حملته وما زلت احمله الى الان، وهو سؤالنا جميعا، وهو: لماذا سلبت فلسطين، ويوجد الفقر، وجميعنا ليس ابناء المعرفة، ونحن لسنا اساس كل هذا المشهد؟ ويكبر السؤال والنقاش والتحليل والمصيبة والمقاومة.
وفي المرحلة الثانوية بدأت انتج الفكرة، واهتممت في المسرح المدرسي، مثلت وكتبت واخرجت لهذا المسرح، حتى وجدت نفسي، واستطعت ان اعبر عن ذاتي ولو بافكار غير منتظمة او سريعة، وكتبت مسرحية اسمها «استاذ ايوب»، واحسست انني بدأت في المسيرة، وقد تأثرت ببعض الاساتذة ولكني لم اشعر بالابهار السريع لاني كنت اريد ان اضع يدي على الحقائق، حتى اساتذتي اصبحوا اصدقائي لاني انخرطت في السؤال.
الحياة تسكن في المسرح و”الملكة والملك”
بعد المرحلة الثانوية، قرأت طاغور الممتلىء بالطهارة والحميمية والرومانسية، وأضعت سنتين بين دراسة الفلسفة والحقوق، وفجأة وجدت نفسي في معهد الفنون، في العام 1982، حتى 1985 فرأيت اشياء ملفتة ومثيرة، وهناك تعرفت على المخرج الراحل الاستاذ يعقوب الشدراوي، والمخرجين روجيه عساف ورئيف كرم ونقولا دانيال وسهام ناصر، والموسيقار بطرس روحانا، تعرفت على جيلين من الاساتذة الاول مخضرم والثاني جديد لديه حداثة التفكير الاوروبي والاميركي، هذا التنوع الموجود في هذه الدائرة المعرفية المسرحية اصبحت مختبري، وهذا التكوين وسع دائرة النقاش والتكوين ورأيت كيف ان المسرح واسع وصعب ومخيف وملؤه قداسة ومعرفة، وكيف انك تستطيع ان تسكن الحياة فيه، واصبحت حركة نارية في هذا المختبر، وكانت الحركة المسرحية في ايامي قوية جدا، فاصبحت اشارك في اعمال واشرك زملائي في اعمالي، وعملت الكثير في المسرح الجامعي، وقدمت تجربة جميلة مع صبية اسمها جويس خوري في مسرحية لسعدالله ونوس اسمها»الملكة والملك»، وحينها تعرفت الى الجمهور والاخير تعرف الي.
من «ابن البلد» مسيرة مخضرمة
وفي العام 1978 حضرت مسرحية للمخرج يعقوب الشدراوي اسمها «جبران والقاعدة» هذا العمل شارك فيه اخي شوقي، و حضرته اكثر من مرة، ليس كمشاهد بل كشخص موجود على درج المسرح، وكان لايام معدودة، ولفت نظري فكرة التركيب، وعرفت كيف تحول كلام جبران الى حياة وبشر تتكلم والى مشهدية وسينوغرافية واضاءة، وهنا بدأت اتعرف الى ملامح مهنية ومعرفية وابداعية، وفي العام 1983، وبعد الاحتلال الاسرائيلي لبيروت قدم الشدراوي مسرحية»الطرطور» وكانت هذه المسرحية مأخوذة عن الكاتب المصري يوسف ادريس وقامت على ثنائية احمد الزين ونقولا دانيال وجمع الشدراوي بين الممثل الشعبي والاخر الاكاديمي وزاوج بينهما، وفي الخلفية نسبة كبيرة من الطلاب الاكاديميين، وفي العام 1984 تقارب دانيال والزين دفعهما الى انتاج مسرحية اسمها»ابن البلد» الذي اخرجها دانيال،
وحصدت المسرحية نجاحا كبيرا واستمرت سته اشهر رغم وجود الاحتلال في جنوب لبنان، ومشاركتي في هذا العمل كان مدخلا لاضافة جهدي ومتن علاقتي مع الجمهور، وقد اكسبني هذا العمل مرونة وتجربة اضافية.
العمل النقابي وتحقيق صندوق تعاضد وقانون مهنة
وفي نفس الوقت عملت في ميدان الصحافة واصبحت عضوا في نقابة الممثلين، ثم امين سر هذه النقابة وملم بكل ابعاد هذه المهنة الفنية والابداعية وحياتها العملية، وحاولنا ان نترجم العمل النقابي الى مكاسب للمثلين، خصوصا ان هناك مشكلة في الحياة الفنية ويمكن ان تتصاعد، رغم ان لبنان اسس الدراما في المنطقة العربية، وانتبهت الى ان تجربة الجيل المؤسس تهدر بكل شيء، وبدأنا نعمل على ايجاد قانون مهنة اسوة بالدول المتقدمة الى ان استطعنا الى تحقيق صندوق تعاضد وقانون مهني، كما استطعت مع صلاح تيزاني (ابو سليم) وميشال تابت ان نشتري دار نقابة للمثلين في منطقة بدارو.
الاخراج الاذاعي والمسرحي
واول عمل اخراجي قمت به كان مع الصديق احمد علي الزين الذي تعرفت عليه في اذاعة «صوت الشعب»، وانتجنا معا مجموعة كبيرة من الاعمال الاذاعية منها: «بيروت 82، بيروت 83، وطني سماؤك»، وكنت من الاوائل الذين ساهموا في تاسيس الاذاعة من موقعي كممثل ومخرج، بعدها ذهبت الى الكاتب اللبناني فؤاد كنعان واخذت مجمل اعماله القصصية وحولتها الى اعمال تمثيلية اذاعية، ثم نظرت الى مجموعة من الكتاب المحليين والعرب والعالميين امثال: عصام محفوظ، توفيق الحكيم، يوسف ادريس، انطوان شرخوف، وقدمت اعمالهم بصيغة تمثيلية اذاعية، بعدها قدمت من كتابين لانيس فريحة عملين اذاعيين: «اسمع يا رضا وقبل ان ننسى» وبصوت عاطف العلم.
وفي نفس الوقت كتب احمد علي الزين مسرحية «رؤية»، وهي مستوحاة من المسرحية الشهيرة «اوديب»، فاخرجتها وكنت بطلها عام 1999 وقدمتها على مسرح قصر الاونسكو ضمن مناسبة «بيروت عاصمة عالمية للكتاب» وشوهدت من جمهور كبير، وشكلت بالنسبة لي معركة دخول الى عالم الاخراج، وشاركت معي تمثيليا الكاتبة كلوديا مارشليان والممثل علي الخليل، ثم ذهبت الى قصيدة للشاعر محمد العبدالله من ديوانه»رسائل الوحشة»، وهي «مصرع دون كيشوت»، وحولت هذه القصيدة الى عمل مسرحي وكانت الرغبة ان «دون كيشوت» ليس غربيا فقط بل عربية والعالم كله عالم دنكيشوت.
السينما والصعوبات
ربما انا كنت مقل في المشاركة السينمائية لأن السينما في لبنان تعاني ما تعانيه، وهذا القطاع يحتاج الى مؤسسات مالية كبيرة دولية، وبدايات السينما في لبنان كانت صعبة، وانا شاركت في بعض الافلام، ولكن ادركت انه في التمثيل ليس هناك بطولة والى اخره بل لو كان الدور صغيرا واديته بشكل جيد يعتبر نجاحا كبيرا، وأول تجربة لي كانت مع المخرجة اللبنانية جوسلين صعب في فيلم «غزل البنات»، بعدها اشتركت في فيلم للمخرج السوري رضا ميسر اسمه «الجنوب الثائر»، اضافة الى بعض المشاركات القليلة.
المال لا يصنع الدراما
والماكنة الانتاجية الدرامية في لبنان ماكينة تركيبية وملتبسة وتشوبها شوائب ويتداخل فيها المالي والشخصي والنسوي والتركيبي والمرضي والعقدي الخ.. لا يمكن لاي شخص ان يصنع الدراما في لبنان بل يمكنه ان يصنع مسلسلا، لان الدراما هي ابنة حياتها وتجربتها وتاريخها وتطور المجتمع، فالمال لا يصنع الدراما، ولقد كان لدي بعض التجارب في هذا المضمار، وانا من الناس الذين لا يلهثون وراء العمل، بل العمل يأتي الي، وأول عمل تلفزيوني لي كان برنامج من كتابة الشاعر جوزيف حرب اسمه»قالت العرب» ومن اخراج سمير درويش، وكانت تجربة جيدة.
* ما رأيك في ازمة الكتابة اليوم؟
_ اليوم نعيش مشكلة في التاليف المسرحي ومشكلة النص، وهذه المشكلة ليست ازمة كاتب بل هي مشكلة الكاتب في ادراك معرفته ان يكتب للمسرح، فعلى الكاتب ان يلم بمعرفة كبيرة جدا تتطلب تداخل علوم وتواريخ والخ..، ان المسرحية خرجت من الفلسفة والرواية خرجت من المسرحية، فبسبب ضعف الكتابة في العالم اصبح المخرجون يعتمدون على الاعداد المسرحي اي ان يأتوا بنصوص قديمة ويسقطوها على مجتمعاتهم، من هنا نرى اننا لدينا نقصاً كبيراً في الثقافة وان كنا نلم بمدارك المسرح والاداب، لكن ان تكتب مسرحا يعني انك بحاجة الى قراءات ومعارف مسرحية.
– اليوم قلائل جدا من الرهبان يقدمون اعمالا مسرحية، لا اعلم اذا استطاعوا التنسك او ان يتكاثروا، فالمسرح في تاريخه يصعد وينزل لانه في صلب الحياة، هناك من يربطه بالاقتصاد، وانا من الذين عملوا في المسرح في اوج الحرب والحالة الاقتصادية المتردية، واعمالنا لم تبث بسبب عدم تصويرها وهذا خطأ نعترف به، وبقيت ضمن نطاقنا ودفعنا ضريبة وثمن انتمائنا للمسرح، ورفضنا فكرة المال والجماهير، بل كنا نهدف الى ممارسة هذه المهنة لأنها مهنة شريفة، وفي لبنان ليس هناك اليات، فقط مصر هي من تملك آليات وتقنيات وممارسة الفن في العالم العربي والافريقي، مصر زرعت الدراما والسينما في شعبها، ثم جاءت سوريا متأخرة ونجحت في الدراما لأنها دخلت في الصناعة والاليات و الاستراتيجية، اما بالنسبة للبنان فقط سقطت المعايير الدرامية لان مال المنتج هو من يتحكم بكل شيء، وبكل مفاصل الفن بشكل عام، واصبحنا وسط تجارة فن، نحن وقعنا في مفارقات عديدة، وانا مسرور اني ولدت في زمن عاصي الرحباني وفيروز وزياد وغيرهم من العمالقة، واليوم علينا الوصول الى مكان مترابط مع الماضي، لانك لا يمكن ان تصنع دراما بالمال، يمكن ان تربح مالا من الدراما، وأسال: لماذا التزوير في المجتمع والتاريخ والاخلاق والعلاقات وفي منطق الوطن بشكل عام، وليس من يحاسب؟ نحن بحاجة لقوانين ورؤية حقيقية ولمنطق استراتيجي نعمل بنهجه.
– نحن قلائل ولكن مستمرون ولن يياأس ولن نخضع، هناك تجارب نراها، ونراهن على النفس، والمفروض على الدولة الحفاظ على نتاج المؤسسين ودعم التطور على على اساس اعمال هؤلاء، اما بالنسبة لجديدي فهو عمل مقتبس عن قصة للكاتب موريس ماترلنك اسمها «العميان»، ولدينا اعمال كثيرة ولكنهم كبلونا، و نحن مستمرون لكي نكسر حيطان السجن.
– لبنان اجمل تكوين تواصلي انساني تعددي حضاري مؤثر في الشرق الاوسط، وبوجود المقاومة سيصبح افضل واقوى واصبح هذا الوطن مناضلا، ولكن نحن بحاجة الى ارادة ذاتية، واعادة هيكلة للقوانين واعادة الاعتبار للمكونات الاجتماعية،
يوجد 170 الف حالة زواج مدني في التاريخ اللبناني وينزل الى التظاهر 40 شخصا، ولذلك علينا الخروج من الحل الفردي والشخصاني والانانية، والمجتمع المدني على منح المساعدات الدولية، ويبدو ان اتفاق الطائف صنع كونفدرالية غير معلنة، يعني اي طائفة تعطل الوطن، والمطلوب اليوم تفتيت الدول العربية، وليس امام لبنان الا ارادته الداخلية وتعديل قوانينه البالية والشروط الحياتية، والشعب سابق حكامه واتصور ان تفتح في مكان ما، اما بالنسبة للشعوب العربية بشكل عام فلم يستطيعوا الدخول الى الدولة ما زالوا عشائر وقبائل، وكل ما يجري ان الشرق يحتاجه الغرب والاخير يحتاجه الشرق، واليوم الذي تقف ضده نراه يسعى الى مستقبله وانت لا تريد ان ترى هذا المستقبل، نحن ندفع ثمن الغباء والجهل والمال الذي نملكه.
جريدة الديار
7- نيسان 2015
POST A COMMENT.