رضوان حمزة.. يا صبي يا أزعر يا لذيذ

 

  رحل رضوان حمزة ، هذا المناضل الشفاف والهادئ ، الانيق في كلماته التي تسقط كالرذاذ على مستمعيه ، مباشرة او عبر هواء اذاعة صوت الشعب او على خشبة المسرح التي احب واختار ان تكون معبره الى قول الكلمة المعبرة عن هموم الوطن والمواطن

رضوان حمزة الذي اختار ان يجمع في حياته بين النضال في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني، وميله الى الثقافة والادب والفن ، ولم ير تناقضاً في ذلك ، لا بل تكاملاً وتداخلاً الى حد الذوبان .

واستطاع رضوان في اعماله الاذاعية والمسرحية ان يزاوج بين هذه القيم النضالية والفنية والمسرحية، فكوّن الشخصية الخاصة لرضوان الذي نبكيه اليوم ، كأحد اعمدة اذاعة صوت  الشعب التي كانت له فيها بصمات واضحة ، سواء ، في اعداد البرامج ، او في تدريب المذيعين والمذيعات .

نفتقد رضوان، الفخور بأنه ولد في زمن عاصي الرحباني و فيروز وصديق وزميل زياد الرحباني ، وترجم هذه العلاقة الى اعمال مسرحية وفنية غنية بالمعاني الانسانية رغم ان شكواه الدائمة كانت من تحكم المال بكل مفاصل الفن عموما .

لكن رضوان صمد وقاوم ، ونهل من معين المقاومة ليغذي نفسه وثقافته وابداعاته الفنية ، وليصرخ بصوت عال في مسرحياته بوجه الظلم والعدوان والتخلف والتبعية .

رضوان حمزة ابن كفرحتى في اقليم التفاح ،مواليد زقاق البلاط في بيروت ، رصف في قالب ثقافي ، بديع مشهد هذا المزيج من العادات والتقاليد …والتناقضات بين هدوء القرية وصخب بيروت وحاراتها ، متوقفا عند القاسم المشترك الذي يجمع بين الفقراء هنا وهناك ليتشكل عنده ذلك الوعي النضالي الذي فجره في اعماله المسرحية وكتاباته ، ومقابلاته مع كبار الادباء والمثقفين والمسرحيين ، وما زلنا نسمع من حين لاخر في صوت الشعب ـ تلك المقابلة المطولة مع الرفيق الراحل محمد دكروب ، مؤلف كتاب جذور السنديانة الحمراء ، وتقديمه لبرنامج محمد دكروب يروي من الذاكرة .

رضوان حمزة الذي انتمى الى وجع الناس ، واحس به ، كان يحاكي المشاعر الانسانية ، بعد ان عايش ، قراءة وزمالة ، كما يقول امثال طاغور ، يعقوب الشدراوي ، روجيه عساف رئيف كرم ، نقولا دانيال ،سهام ناصر،  بطرس روحانا ،وجسد هذه الاحاسيس من خلال مشاركته في مسرحية الملكة والملك لسعد الله ونوس ،والطرطور ليعقوب الشدراوي .

هذه المشاركة التي شكلت كما يقول اضافة لجهده ، ومتنت علاقته مع الجمهور واكسبته مرونة وتجربة اضافية .

ولانه كان يرى في الاتحاد قوة ، ولانه ابن مدرسة الحزب الشيوعي اللبناني، كان لا بد ان يلتفت الى العمل النقابي ، فكان عضوا في نقابة الممثلين ، ثم امين سرها ، واستطاع مع صلاح تيزاني ( ابو سليم ) تحقيق صندوق التعاضد للممثلين ، وحتى اقرار قانون للمهنة ، وشراء دار نقابة للممثلين في بدارو .

في المؤتمر الحادي عشر للحزب كان الرفيق رضوان مساهما نشطا في اعماله ، وفي النقاشات التي تخللته ، وكان همه الحفاظ على الحزب ، وعلى تطوير اذاعة صوت الشعب التي ساهم في إغنائها بالبرامج الثقافية ذات النوعية العالية ، التي ساهمت في توسيع دائرة المستمعين اليها .

رضوان لن ننساك وسنبكيك بدمعة حارة ، ولكن في الوقت نفسه ،سنستمر ، مستمدين من تجربتك العزم والارادة وغنى المادة الاذاعية .

وداعا رفيق رضوان ، رحلت باكرا وتركت غصة في قلوب رفاقك  زملائك ومحبيك

وداعا رضوان ، وانت تعانق القلم ، فيما رفيقك كمال البقاعي  لا يزال  يمتشق بندقية المقاومة حتى رحيله

رحلت باكرا…رضوان وداعا

6-9-2016

(الحزب الشيوعي اللبناني)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جريدة الاخبار

 كانت ليلة انتظار صعبة.الخبر وقع فجرا. الخامسة فجرا. كان منتظرا برغم تفاؤل كان يتربع في قلبي بوقاحة التمرد على القدر ورفض التصديق، برغم تلك الأخبار المتلاحقة المنذرة بنهاية فاجعة. من اين أتى التفاؤل؟. امس مساء، غصت كاترين عندما هاتفتني من الاذاعة لتخبرني بأن رضوان حمزة، زميلنا ومدير برامج الاذاعة التاريخي، بحالة خطرة، ثم اجهشت بالبكاء ولم يفرّج عنها الا ما لوحت لها به من أمل من انه سيستفيق من الكوما، لا شك!. من اين اتى كل هذا التفاؤل؟ ربما من الاحساس بظلم الموت العادي لكائن رقيق مسالم لا يزال امامه عمر ليحياه؟ ظلمه الموت باستيفاء روحه باكرا في حين انه داور كل شيء ليستطيع البقاء، من اجل لمى وعلي ووليم، من اجل بعض الافكار الجميلة التي اراد ان يقوم بها، ان يتابع القيام بها. كأنما بذلك يطرد الملل والضحالة والتفاهة التي اغرقتنا كلنا كما في مستنقع رمال متحركة، تستمر بجذبنا الي الاسفل، مهام طاردة للامعنى.

رضوان؟ جاري وزميلي وانيس جلسات مختطفة حول صحون المازة التي تحضرها لمى الرسامة الجميلة وزوجته، في حين يتنطط علي ووليم كعفريتين شقيين. اجلس علي تلك الكنبة انظر الى المكتبة مقابلها، ولعابي يسيل اشتهاء لبعض كتبها. كتب لم تبخل بها علي “شرط رجعيه ها.. لانو هيدي طبعة قديمة وبرجعلو من وقت لوقت”. كان كتاب “المثنوي” لجلال الدين الرومي، فيلسوف التصوف، يقرأ لي منه مقاطع، ثم يتوقف فجأة مرددا الجملة التي سحرتها، كأنه أحس للتو معنى كل مفردة يتفوه بها، فيتردد في افلاتها ضنا بلذة مذاقها في فمه.
لرضوان المتهمل بطبعه، تمهل ايقاع الإلقاء المسرحي، مواهب عدة كان يغدقها علي من حوله من تلامذة يتعلمون الالقاء او الصحافة الثقافية او المسرح. متمهل صوت هادي كالمشي على رؤوس الأصابعء دافيء يجبرك بدون طلب علي خفض صوتك وان “تكنّ”. اسمعتنا “صوت الشعب” صوت رضوان مرة اخرى صباحا، بعد ان توقفت سوسن عن قراءة النعي مختنقة بدموعها، دموع ” فقدان ثلاثة اغصان من السنديانة الحمراء”، وخاصة غصن الاذاعة الذي كانت تحط عليه مواهب شابة، تنقد حب التجربة وتتزود بماء الشغف بالمهنة.
في العمل الأخير الذي سجلناه سوية في استديو زياد الرحباني، اقصد البوم “ما العمل؟ الجمهورية ب” الذي اصدرته جريدة الأخبار والذي يحتوي علي نصوص لزياد كتبها في بدايات الجريدة، كان رضوان ينصت الى القائي ويدعوني الى التمهل وهو يكور اصابعه، ناظرا الي من تحت نظارتيه الطبيتين، انا المستعجلة دوما والتي لا تطيق الجلوس في مكان واحد اكثر من عشر دقائق. حاولت في الحقيقة ابطاء تلاوتي، وظننت اني نجحت، لكني لم ادرك اني لم افعل الا حين صدور الالبوم وسماعه، حيث لاحظت بالمقارنة مع قراءة رضوان، وطارق، اني الوحيدة المستعجلة.
معجبة انا بأدائك يا رضوان، هل قلت لك ذلك؟ الأرجح، كنت أحب صوتك العميق والعريض والهاديء كأنك شخصية خارجة من روايات الاتحاد السوفياتي التي تتحدث عن اشخاص يعيشون في قرى نائية يغطيها الثلج والصمت العميق.
لم ار رضوان ممثلا علي المسرح الا في مسرحيات زياد، كنت خارج البلد. لكني “زاملته” هناك، على مسرح زياد حين كنا نلعب سوية في اسكتش ما. كان، كما في حفلة المركز الثقافي الروسي، منذ سنتين او اقل، يساعدنا في التمرينات: ملاحظات بسيطة بصوت هاديء لمن يطلب رأيه، لكنه لا يصر. يدير ظهره وينصرف ليجلس مدخنا سيجارته في زاوية ما مراقبا من بعيد، او قارئا لنصه او … شاردا هكذا في عالمه الخاص. لا يصر على مطالبه. تماما كما يكون قد فعل اليوم فجرا.
لم لم تصر يا رضوان؟ ربما كان كل شيء ليتغير يا صديقي.. ربما كنت لتبقى هنا، حيث لا زلنا بحاجة الى دفء صوتك وصداقتك وهدوء ابتسامتك التي تطمئن الأحبة الى ان كل شي سيكون بخير. لم لم تفعل يا رضوان*؟ لم يا رفيق؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجيل الأخلاقي
بيار أبي صعب
جريدة الأحبار
ذلك الصيف أواسط التسعينيات، أقامت الفرق العربيّة المدعوّة إلى «مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي» في السفن السياحية، بسبب «المؤتمر الدولي للسكّان والتنمية» الذي لم يترك فندقاً من شرّه في العاصمة المصريّة. فوق سطح تلك السفينة الراسية على ضفاف النيل، ذات ليلة قاهريّة عامرة، كانت جلسة سمر مع رفيق علي أحمد (المكرّم تلك الدورة)، ورضوان حمزة مدير فرقة سهام ناصر التي قدّمت عامذاك نسخة لبنانيّة مدهشة من المتمرّدة الإغريقيّة الخالدة («ميديا ميديا»، 1994).
لا أعرف لماذا احتفظت، أنا النسّاء، بتفاصيل تلك السهرة التي امتدّت حتّى الفجر. كان رفيق قليل الكلام يكتفي بطرح الأسئلة الحائرة، ورضوان بمزاجه الساخر مفتوح الشهيّة على النقاش، وكاتب هذه السطور بشطحاته الماديّة والمتعويّة والثوريّة، بدا كأنّه آتٍ من المرّيخ (في الحقيقة، من مكان ليس بعيداً عنه، هو لندن)… طرح عليّ مجموعة أسئلة لحوار صحافي، أجبته عليها خطيّاً، (مثلاً. سؤال: اللي خلق علق؟. جواب: الحريّة هي فهم الضرورة). دار الحديث حول التغيير والسلم الأهلي والتقدّم والعلمانيّة والنظام السياسي والفكرة القوميّة. كان السؤال المحوري هو دور اليسار اليوم في لبنان والعالم العربي، ضرورته، علاقته بالدين، وموقعه من النظام الطائفي والأنظمة الاستبداديّة. نحن في بداية المرحلة الانتقاليّة التي تلت الطائف، وانفتاح المناطق اللبنانيّة على بعضها، بعدما فرّقتها خطوط التماس طويلاً. كان البلد يعيش ذروة الأوهام الحريريّة بتجاوز الحرب الأهليّة وإعادة البناء. ونحن غارقون في الشكوك، نحاول أن نتوقّع ملامح المستقبل. أدركت أنني لم أكن أعرف رضوان جيّداً. كنت أقرب منذ أيّام باريس، من أخيه شوقي الذي سيخذله قلبه بعدها بسنوات. تلك الليلة صرنا «أصدقاء» فعلاً. صداقة سياسيّة وفكريّة. وهذا الصديق هو الذي نودّعه اليوم بمزيد من الأسى، ونحن نفكّر بعائلته وزملائه ورفاقه. رضوان الذي رحل مبكراً قبل أن يعطي كل ما يمكن أن يعطيه، هو أحد أبناء هذا «الجيل الأخلاقي» بالمعنى المادي، الإغريقي، لكلمة أخلاق. جيل ورث أفكار التنوير والتقدم، ومشروع التحرر والتغيير عن معلّمي السبعينيات، وأراد أن يمضي به إلى النهاية. رضوان الذي بقي شيوعيّاً في زمن الشكوك والانتهازيّات والردات. شغله المسرحي على «دونكيشوت» محمد العبدالله بعدها بسنوات عدّة، ثم على «رسولة» أنسي الحاج، يحكي عن طموحات ذلك الجيل ومراجعه وأحلامه المخدوعة. بقي رضوان طوال مساره المهني والسياسي، في الإعلام والمسرح، ذلك المناضل الراديكالي الذي يرفض التنازل. والكثير مما قاله صيف ١٩٩٤ عن الصراع الحقيقي في لبنان والمنطقة ما زال راهناً. نودّعه وعيننا على الورثة: هل هناك حقّاً من سيكمل تلك الطريق التي انقطعت على حين غرّة؟
7-9-2016
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بياض أبدي

لوركا سبيتي
جريدة السفير
لا يشبه وجهه وجها رأيته ذات مرة، كما حالك أمام الوجوه التي تلتقي بها وتشبّهها بوجوه أخرى. ربما قد يذكّرك بانفعال ملامح وليس بملامح. انفعال جديّ او قلق، متذمر او مرتاح، ولكن كلها انفعالات تنتاب البشر جميعها. شيء ما يرقد على صفحة وجهه يخصه ولا يخص غيره، يرتاح بين ملامحه ليترك الناظر اليه مرتاحا. الحاجبان كثيفا البياض، ومع اللحية التي لم يُعرف من دونها ـ كأنها صارت جزءا ثابتا فيه تكمل ودّه، وتزيد من عطفه ـ يشكلان مشهدا ليس غامضا ولا واضحا، بل ربما ملائكي. بياضهما تخاله أبديا، ربما يصبغهما بالأبيض، كي يؤكد طهارته. رضوان حمزة، حين يبتسم بارتباك، يتبدد الارتباك الذي يرميه عليك نهارك المتعب، وحين يتكلم تطلع الطيبة منه كقروي يصدّق أن لا حياة خارج حدود قريته. وحين تسأله عن حاله يطيب له التكلم باختصار، يبتلع رضابه، وتبدأ حماسته بالسكون. كأني به لا يود رمي ثقل مشاكله الحياتيه عليك، كأني به لا يود العودة الى ما مضى ليعيشه مجددا وربما مرارا، حيث الألوان الأولى والحكايا الأولى والحب الذي اثبت بأنه يزول وإن بقي فسيتحول الى تجاعيد.
التقيت به بالصدفة، كان يجلس في باحة قصر الأونيسكو، رجل أبيض الشعر والثياب والقلب، سلَّم عليّ بارتباك شديد، ويد خفيفة كريشة. يده ناعمة الملمس كأنها لطفل، ولا قوة فيها كأنها لإمرأة مرفّهة، عرّفني عن نفسه، لم أكن أعرفه، ولكني تصنعت العكس «طبعا اعرفك» (كما يحدث مع أكثرنا) تبادلنا اطراف الحديث ولم نتناول موضوعا محددا، يظهر بأنه ضبابي لا يحدد فكرة ولا يقف كثيرا عند الأشياء، ويبين كأنه ليس مهتما بالذي تقوله، او لا تعنيه كل الحكايات، ولكنك ستتفاجأ به لاحقا بأنه يعرف عنك ما لا تعرفه عن نفسك. كأنه تعوّد ان يراقب وان يسجل ملاحظاته في ذاكرته، متأكدا بأنه سيحتاجها ذات مرة، يعرف ماذا يقول وكيف يقول ما يعرف. استوقفني هدوؤه، ولكني عرفت بأنه رجل ليس عاديا وأنَّ خلف هذا الهدوء مسرحا من الخبرة والتجارب… ارسلت له رسالة عبر الفايسبوك بأني اريد ان أُعِدَّ وأُقَدِّم برنامجا ثقافيا في «صوت الشعب»، كنت مترددة حول مراسلتي له، ومتسائلة ان كان سيرد اصلا، وإن كان سيقبل مشروعي هذا وانا الآتية من الشعر وقصص الأطفال ولا علاقة لي بالتقديم والإعداد وبالإذاعة. «يسرّني بأنك تفكرين بهكذا موضوع»، ردّ على رسالتي الفايسبوكية حرفيا. وكان برنامج «صوت الشعب من صوت الشعب» الذي دام أربع سنوات. حاورت فيه اكثرية مبدعي هذا البلد. رضوان حمزة رئيسي المباشر في العمل، شاركني بكل واردة وشاردة، طرح عليّ اسماء الضيوف، رفض البعض واصرّ على آخرين، فاجأني في أكثر الأحيان بشخصية كنت قد نسيت وجودها، من دون أن يكون ثقلا عليّ وعلى البرنامج، فكما كان حرا في حياته كان حرا في التعامل مع الآخرين. لم أشعر بوجوده ولكنه كان موجودا، مثل طيف هائم، مثل شجرة اعتادت اخضرارها. قَنوعٌ وليس، نادمٌ وليس، مَهمُومٌ وليس، فَرِحٌ وليس، صديق قريب جدا وبعيد جدا. تخاله عبثي ومزاجي وفوضوي، وتتأكد في كل مرة بأنه حاضر ومتنبه وعارف وتفصيلي ودقيق.
حين قررت ترك «صوت الشعب» للانتقال الى عمل آخر، واخبرت رضوان حمزة بالموضوع، كان سعيدا جدا لي، وأخبرني بأنه آمن بمقدرتي هذه منذ البداية، وأنه توقع لي الدخول في عالم التلفزيون. تذكرنا البدايات، وضحكنا على بعض المواقف التي اضطررنا فيها أن نتحاور بحدّة من أجل حلّها. هو أستاذي الأول، أتى بي الى عالم الإعلام، وعلّمني كيف أحاور وكيف أعدّ وكيف أفهم الآخر المحاوَر، وكيف لا أهاب أحدا، علمني، وبصمته المعهود، كيف اؤمن بنفسي وأثق بقدراتي واضحك على الصعوبات بكلمة طالما قالها: «بسيطة»… يحمل الكائن الأبيض الذي شَبَّهَتْهُ صديقتي الشاعرةُ البحرينية بـ «نبي»، كأس الويسكي، يرفعه نحو الضوء ويضحك، في ضحكته ضحكات الصبايا الجميلات اللواتي كنت أَراهُنَّ إلى جانبه دوما، كأنه يستعيد بهن شبابَهُ، أَلَقَهُ، الوقتَ الذي مضى مسرعا كأنه رذاذٌ، كأنه هارب من رصاص طائش. تخيلته طفلا يلاحق هواء الحقول، طفلا يعانق أمه حتى الالتصاق ولا يريد أن يفلتها، طفلا يحمل رغيف خبزه الوحيد ويوزعه على أطفال حيه الفقراء، أردت معرفته اكثر، أيهما هو: الطفل الحرّ حتى من مزاجه، أم أستاذ المدرسة المكبل بالقوانين؟ الشيوعي العبثي الأمميّ الرافض للسلطة، أم مدير البرامج الجالس وراء مكتب يعلوه ملك؟ أهو الحالم بمجتمع يمنح أولادَهُ حياةً لا تنقصها أدواتها الأولى، أم المرهق من تكاليف الحياة التي لا تنتهي في بلادنا؟ تمنيت محاورته قبل رحيلي والوصول معه حتى العظم. «يا لوركا شو بدك تحاوريني قبل ما تفلي، أكثر اللي حاورتيهم ماتوا، بدك تموتيني». «بعدك شب يا زلمي شو هالحكي»…
7-9-2016
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
«شو بَعدك ناطر يا رجُل. قوم شرِّف عالشّغل»
فراس خليفة
جريدة السفير
.
لطالما كان رضوان حمزة يقول لي الكلمات إيّاها عندما يكون هناك «حدث ما كبير» يستدعي أن «نحشد» ما أمكن من قدرات متواضعة عبر الموجة 103.7. وغالباً ما كنتُ أردُّ، ممازحاً، بعبارة: «شو مين مات اليوم»؟ رضوان الذي ظهر أخيراً في «شريط وثائقي» قال فيه إنّ «صوت الشعب» واجهت العدو الإسرائيلي في «حــرب تموز» قبل عشر سنوات بموسيقى «فاغنر»، كان يريد أن نكون دائماً في قلب الحدث، وعلى الإذاعة أن تعود إلى الناس البسطاء الذين تحمل إسمهم.
يستحقّ رضوان حمزة لقب «المعلّم» عن جدّ. مَن مرَّ لفترات طويلة في «صوت الشعب» عرف رضوان بالضرورة، ومن لم يعرف الإذاعة جيداً عرِف رضوان وحده على الأقل، وقد صارت غرفته في الطابق الثاني تحت الأرض أحد «معالم» الإذاعة الصريحة. ورضوان (وهذا ما لا يعرفه كثيرون) الذي لم يكن مرتاحاً في السنتـــين الأخيرتين لكثير من «الإجراءات» التي اتخـــذت في الإذاعة، آثر الصمت معوّلاً على الوقـــت: «المهم تكفّي الإذاعة».
يا رضوان يا ايها الجميل المائل للحب دائماً، من يُمسِك بيدنا غداً ويصحّح لنا اخطاءنا على الأثير؟ لم نعد بحاجة الى مزيد من الصور أو اللوحات لنعلقها على جدران الإذاعة. سنكتفي من الآن فصاعداً بضحكتك المجلجلة يتردّد صداها في كلّ مكان مرّ به وقع خطاك خفيفاً. وسنعود من وقت لآخر لنبش أرشــيفك وقد صار مكتبة إذاعية قائمة.
وماذا بعد يا صديقي؟ ألم نتواعد على اللقاء هذا الأسبوع؟ «الله يسامحك». مِن أين لك كل هذا الهدوء حتى في رحيلك؟
7-9-2016

Facebook Comments

POST A COMMENT.