لا يُمكن، بأيّ شكلٍ من الأشكال، إكمال الحديث مع محمود من دون «تدخّلات». يقطعه سلامٌ من هنا، طلب علبة سجائر من هناك، «وحدة سفير من بعد إذنك»، سؤالٌ عن المطعم الفلاني، المفرق العلّاني، «كم وحدة أهرام عندك؟ عطيني ايّاهن كلّن»، استفسارٌ عن سعر إحدى المجلّات، «دخلك بعدها عم تصدر هيدي»؟، طلب صرف عشرين ألف ليرة، تصحيح عملات معدنيّة من فئات الـ250 ليرة، الـ500… هكذا، يطول حوارٌ، عزمت على حصره بنصف ساعة، إلى أكثر من ساعتين.
ليس مفاجئاً أن يكون محمود أبو الحسن «مختار» الحمرا. الغريب، أن يمضي رجلٌ خمسةً وعشرين عاماً في شارعٍ واحد، في زاويةٍ من شارعٍ واحد، من دون أن يُصبح دليل المكان. لبرهة، تشعر بحاجة شارع الحمرا لمحمود. لصُحفه المصفوفة على الكشك الرّماديّ الصّغير. لكتبه الّتي يعلو معظمها الغبار. لعلب السّجائر الّتي يُفضّل حمايتها بغطاءٍ بلاستيكيّ. لكرسيّه الأسود المكسور، ذاك الّذي يُقدّمه إلى قاصديه بهدف إراحتهم. لأقفال كشكه الّتي نهشها الصّدأ. لسلامٍ يرميه طبيب عليه. لتحليلاته الّتي يُطالع بها وسائل إعلامٍ تقصده لإغناء تقاريرها. لزوّاره المتكرّرين: بائع اللّوتو، ذاك الرّجل الّذي يُحضر معه دائماً قطع حلوى منزليّة الصّنع، الآخر الطّاعن في السّنّ الّذي يصرخ دائماً.
ـ «بتفوت من هيداك المفرق، وين محمود بيّاع الجرايد، وبتكفّي طلوع».
محمود أبو الحسن علامة فارقة في الشّارع. وراء ذاك الجلوس الصّامت حيناً، المفعم بالحيوية أحياناً حكاية قاسية. تلك الضّحكة، علامته الفارقة، تُخفي وراءها تعباً كبيراً. ما تراه من عزيمة الرّجل يستأهل التفاتةً بسيطة.
يُطبق شفتيه عند استذكارهما. يُطلق تنهيدةً عميقة، ويبتسم. يُشيح بنظره بعيداً. لا يحبّ أن يراه أحدٌ في لحظة ضعف. «أنا إنسان قلبي زيّ الصّخر». تلك هي الصّفة الوحيدة التي يحبّ محمود أن يُعرف بها. ولكن للحديث عن الأبوين حسابٌ آخر. في لحظة، ينسى نصيحته الّتي أطلقها منذ دقيقة. «من يُريد أن يحنّ يتعب كثيراً». يُعلّل ذلك بالحديث عن أشياء لا يُمكن للمرء تجاوزها. تلك الّتي تفرض نفسها عليه من دون سابق إنذار.
في عمرٍ مبكّر فقد والديه. هو يعلم أن لا شيءَ يمكن أن يعوّض عن ذلك، لكنّ «الحياة تستمرّ». لم يختبر معنى الأبوّة. وضع جانباً فكرة تأسيس عائلته الخاصّة. صبّ اهتمامه نحو مكانٍ آخر: «العائلة الأصليّة». في ذاك العمر الصّغير اتّخذ قراراً كبيراً: سأضع كلّ شيءٍ جانباً، لا وقتَ لأيّ شيء، الآن، لي عائلة كبيرة، والواجب يقتضي أن أعيلها. وعلى هذا المنوال، أمضى محمود 59 عاماً.
في حديثه عن والديه تتداخل أمورٌ كثيرة. يستذكر الصّورة القبيحة عن الدّمار مطلع الحرب الأهليّة في إحدى الصّحف. يلمع شيءٌ في عينيه وهو يتحدّث عن بكائه لدى رؤية الصّورة. كان يومها يبلغ من العمر ستّ سنوات. يروي سيرة عمل والده لدى آل الشّرقاوي. لا يذكر تفاصيل عنه سوى أنّه كان يعمل في صحيفةٍ ما. أمّا الحديث عن والدته فما إن يبدأ حتّى ينتهي. تلك الغصّة الّتي يُحدثها استذكار الأمّ مُتعبة.
لم يستطع ابن تبنين الجنوبيّة إكمال تعليمه الابتدائيّ. الظّروف المعيشيّة الصّعبة التي كانت تعيشها العائلة جعلت من الصّعب المتابعة. بكلّ فخر يقول: «أنا خرّيج الصّفّ الأوّل، من مدرسة (فاطمة الزّهراء) بمنطقة زقاق البلاط».
بداياته في المهنة كانت برفقة خاله. يومها، كان الأخير يمتلك بسطة صحف في الحمرا. لم يملك محمود خياراً آخر. طفلاً صغيراً، عمل مع خاله على الشّارع. تعرّف باكراً على «سرّ المهنة». تواصل مع من يكبرونه سنّاً بعقود. حفظ في تلك السّنّ الصّغيرة ما لا يعرفه أقرانه. «السّفير»، «النّهار»، «الأهرام». حتّى المجلّات الإباحيّة لم تسلم من تلك «المعرفة». باكراً جدّاً، حفظ وجوه زبائن هذا النّوع من المجلّات. «كبار ومعن مصاري»، يقول محمود، ويضحك.
أواخر العام 1989، استقلّ محمود في عمله. أصبحت له بسطةٌ خاصّة. في حديثه عن مهنة بيع الصّحف، يسترسل أبو الحسن. يتحدّث عن «حداثة» عهد الأكشاك في المهنة، وأقدميّة البسطات عليها. يُعدّد أصحاب الأكشاك الموجودين اليوم في الحمرا. يذكر حسّان دكروب، نعيم صالح (أبو أحمد)، أبو جميل حمود، علي حمود، محمّد السيد، يوسف فران، وغيرهم. يغوص في التّفاصيل: علاقتنا هي مع وكيل توزيع هو «فوّاز غروب»، «من عنّا من الضّيعة كمان»، فلان أقدم في المهنة أقدم من فلان، هيدا عندو علاقات أكتر من هيدا». يسـترسل ويضحك، يضحك كثيراً.
كنوعٍ من الحشريّة، تكرّ سُبحة الأسئلة على محمود. لا يُمكن «عدم استغلال» معرفة رجلٍ لتفاصيل، لمبانٍ، لعمارات، لروّاد، لأصحاب مشاريع، منطقةٍ بأسرها. يختصر محمود تاريخ الشّارع بعبارةٍ واحدة: صالات السّينما. «سينما الحمرا، السّارولّا، الأسترال، الكونكورد». يُشير بيديه إلى مصرفٍ يُقابله: «هيدا جديد، ما إلو خمس سنين، قبلو كان في معرض للمنتجات الصّينية». يمدّ يده بالاتّجاه المقابل. «هنا كان مطعم الهورس شو، أصحابه من آل كوسى، استثمره آل حجيج بعد عام 2005». لا يتوقّف «الدّليل السّياحيّ» عن الكلام. في ذاكرته تفاصيلُ كثيرة تعوم على السّطح. في الحديث، يرى بسطات العطورات، وعربيّات الجلّاب. يرى مقهى «سبيك تايم» أمامه. يسمع نداء صاحب عربة اللّيموناضة على بضاعته، ومفاصلة سيّدة على سعر حذاء. يسترسل وحده. يبدأ هو بطرح الأسئلة: «هل تعلمين لمَ أُطلق عليها تسمية الحمرا»؟ لا ينتظر ردّاً بالمعرفة أو النّفي. «يقول جدّي إنّه كانت تغزوها رمالٌ حمراء اللّون، وفاكهة الصّبّير».
«الصّحافة الورقيّة ما بتموت»، يقولها ويبتسم. «الحمرا بتموت شي؟ «الصحافة متل الحمرا ما بتموت.. أنا هيك إحساسي».
زينب سرور \ جريدة السفير اللبنانية
30\3\2016
POST A COMMENT.