لم تعد الصحافة في العالم ما كانت عليه، ولم يعد دورها وتأثيرها كما كانا قبل عشرات السنين. ارتبط الإعلام بوجود الإنسان. منذ خلق ولديه الدافع للبحث ومعرفة ما يجري حوله. وشكّل تناقل الأخبار شفوياً القناة الأولى للإعلام، قبل ان يفكّر الإنسان بوسيلة لحفظ ذلك، فاخترع الكتابة. تحوّل المنشور، وهو أول شكل يمكن تشبيهه بالصحافة، إلى «وسيلة» إعلامية حاضرة في حياة البشر. وعرف باسم «اكتادورنا» ويعني «أحداث اليوم» أيام حكم القيصر الروماني جوليوس حوالي العام 60 ق.م. وسجل حضوره وتأثيره في مجتمع ذلك الزمان.
غير ان اختراع تقنية الطباعة على يدي يوهانس غوتنبرغ في مدينة ماينز الألمانية العام 1450 هو الذي شكّل نقطة التحول التاريخية التي جعلت الصحافة جماهيرية. أصبح صدور جريدة منذ ذلك الوقت أمراً متاحاً للجميع، مع كل التأثيرات والتحولات الاجتماعية والسياسية التي أتاحها.
وجاءت عشرينيات القرن العشرين مع ظهور الإذاعة كوسيلة إعلامية جديدة نزلت إلى الساحة، ليضع الصحافة امام تحدي الاستمرارية والبقاء الأول في حياتها.
وفي ثلاثينيات القرن الماضي أيضاً، شكّل التلفزيون مع سحر الصوت والصورة معاً التحدي الثاني. لكن كل ذلك لا يقاس بالتحدي الذي اوجده عصر انفجار المعلومات الذي نعيش منذ انطلاقه في تسعينيات القرن الماضي، نتيجة التقدّم التقني المذهل في عالم الإعلام. محا هذا العصر حدود الزمان والمكان، وصارت المعلومات حاضرة في كل وقت وفي كل نقطة على الأرض. أصبحت الصحيفة نتيجة ذلك وسيلة إعلامية محدودة في منافسة قاسية مع وسائل تملك مدى وقدرات وسحراً غير محدودة. تغيّر المشهد الإعلامي في العالم بشكل جذري غير مسبوق، وأخذت الصحف تبحث عمّا يبقيها على قيد الحياة. شاهدنا صحفاً يتغيّر وجهها كما حصل مع «واشنطن بوست» الأميركية التي انتقلت ملكيتها في تشرين الأول من العام 2013 إلى مؤسس العملاق الأميركي للتجارة على شبكة الانترنت «امازون» جيف بيزوس بصفقة بلغت قيمتها 250 مليون دولار. كما شاهدنا صحفا تعلن موت نسختها الورقية وتلج عصر الصحافة الالكترونية مستفيدة من التقنيات الجديدة كما حصل مع صحيفة «فاينانشال تايمز» التي أعلنت اصدار نسخة ورقية واحدة يومياً. وشاهدنا صحفا أخرى تتمسك بالحياة وتعزّز دورها التكاملي مع وسائل الإعلام الأخرى، كما هي حال مجلة «تايم».
ويبقى السؤال الأساسي: كيف يمكن للصحافة ان تواجه التحدي الجديد، وتبقى حاجة للقراء؟
وفرت الثورة الإعلامية السادسة التي يلتقي علماء علم الإعلام والتواصل على اننا نعيشها في الوقت الراهن إمكانات معرفية هائلة، تتمثل في ما يسمى الطريق السريع للمعلومات من خلال شبكة الانترنت، النموذج الأمثل لشبكات المعلومات المترابطة.
قبلها أتاح الكمبيوتر إمكانيات هائلة لحفظ المعلومات والصور واسترجاعها، مسقطا حواجز الجغرافيا والزمن. واستفادت وسائل الإعلام المختلفة بما فيها الصحافة من هذه الثورة. لكن الاستفادة الأكبر صبّت في رصيد الوسائل الأخرى.
أوجد هذا العصر وسائله من انترنت وهواتف ذكية تحمل تطبيقات يمكن ان توفر للإنسان المعلومات اللازمة على مدى ساعات النهار والليل، وفي كل بقعة في العالم. صار ما بشّر به عالم الإعلام والتواصل الكندي مارشال ماكلوهان عن «القرية الكونية» واقعا ملموساً. طغى البصري والسمعي على المكتوب، وذهب البعض إلى حد اعلان موت الأخير، مستندين إلى الوقائع التي ذكرتها سابقاً.
لكني أجد هذا الاستنتاج في غير مكانه، يكتفي بدراسة جزئية للموضوع. تملك الصحافة عناصر قوة لمواجهة التحدي الجديد يمكن ان تستند إليها لتعزز حضورها ودورها. ينطلق هذا الدور من وظيفة تؤديها الصحافة في المشهد الإعلامي العام، هي وظيفة تكاملية مع وظائف الوسائل الأخرى. تقوم الوظيفة الأساسية للإذاعة على «اعلان» الخبر أو المعلومات، الوظيفة الأساسية للتلفزيون على «عرض» ذلك. وكما يتكامل الصوت والصورة في ذلك، فإن الصحافة التي تشرح وتحلل ما يتم إعلانه وعرضه تؤدي وظيفة مكملة تشكل حاجة لفهم ما يجري بأبعاده المختلفة.
وبرغم ان وسائل الإعلام المرئي والمسموع صادرت جزءاً من هذه الوظيفة من خلال برامجها الحوارية، فإن هذه الأخيرة لم توفر الإحاطة العميقة والواسعة المطلوبة لشرح الوقائع والحوادث. يضاف إلى ذلك الدور التاريخي للصحافة في اطلاق نقاشات حول عدد كبير من القضايا على صفحاتها والتي تهم المجتمع. وغالباً ما تشكّل مقالةً او تحقيقاً او مقابلة او استطلاعا للرأي تنشر في صحيفة ما، مادة لنقاش واسع ينتقل إلى وسائل الإعلام الأخرى، وتشغل المجتمع على مدى أيام وأشهر طويلة. وتلعب صفحات الرأي والقضايا في الصحف هذا الدور المحوري الفاعل.
يشكّل التفاعل بين الصحيفة وقرائها شرطا لتحقيق قيم مضافة في المادة الصحافية. ولهذا على إدارات الصحف ان تبحث دوما عن وسيلة لقياس اهتمامات قرائها والمجتمع عموما من خلال تواصل مباشر أو استطلاعات للرأي سعيا إلى ان تكون المادة الصحافية المقدمة، تلك التي يحتاج إليها أو يهتم بها القارئ.
صحيح ان المشهد الإعلامي تغيّر. لكن الصحيح أيضاً ان القارئ تغيّر، وعاداته وسلوكه كذلك. اتجه قسم من القراء إلى أجهزة الكمبيوتر واللوحات الالكترونية، واستغنى عن النسخ الورقية. وكما تحرّر الإعلام من «أسر» الزمان والمكان، كذلك فإن القارئ صار «حرّاً» يمكن للصحيفة ان تصل إليه في كل بقاع الأرض. وهو ما يوفر لها قاعدة واسعة من القراء، كان مستحيلا الوصول إليها قبل سنوات.
اظهر استطلاع حديث للآراء ان 44 في المئة من الفرنسيين يقرأون الصحف من خلال أجهزة الكمبيوتر او أجهزة الهاتف الذكية او الألواح الالكترونية، وهي نسبة مرشحة للارتفاع في فرنسا وغيرها من البلاد، وتفرض من جانب إدارات الصحف استراتيجيات ومقاربات مختلفة. وفي الولايات المتحدة الأميركية تعتبر صحيفة «نيويورك تايمز» مثالاً ناجحاً على الانتقال من النسخة الورقية إلى النسخة الرقمية مع وصول عدد المشتركين إلى 700 ألف مشترك. وفي كندا لجأت إدارة صحيفة «لا برس» في مونتريال في مطلع العام 2016 إلى الاستغناء كليا عن النسخة الورقية والاكتفاء بنسخة مجــانية الكترونية، مع إمكانية الاشتراك في مقالات معينة. ويبلغ عدد المشتركين في هذه الخدمة حالياً حوالي 500 ألف شخص.
لم يعد ممكنا ان تبقى الصحيفة في العام 2016 ما كانت عليه قبل سنوات. على القيمين على الصحف في العالم ان يركزوا اهتمامهم على كيفية الاستفادة مما وفره التقدم التكنولوجي المذهل. ولذلك صار وجود موقع الكتروني تضم مادته مضمون الصحيفة، إضافة إلى وثائق لا تستوعبها صفحاتها، كما تضم صوراً وأفلاماً… إلزامياً في عصرنا.
البروفسور باسكال مونان
مدير قسم الإعلام والتواصل في جامعة القديس يوسف
جريدة السفير اللبنانية
19/3/2016
POST A COMMENT.