ليون غارابيتيان: «السوفياتي» الأخير في زحلـة

عفيف دياب ||

لا يخفي ليون غارابيتيان سعادته حين يتحدث عن زمن بلاد «الرفيق فلاديمير إيليتش لينين». فالرجل الذي يفتخر بأنّه «السوفياتي» الأخير في مدينة زحلة، لا يجد في وضع مجسم طائرة «الميغ» قبالة الـ«أف 16» سوى حتمية تاريخية على قرب هزيمة «العم سام»
******************************

يجلس ليون جورج غارابيتيان خلف طاولة صغيرة في منزله المتواضع في أقدم حارات زحلة، مار جرجس، أو الحارة التحتا، تتكدس أمامه صحف ومجلات. يقرأ ويقص العناوين التي تدغدغ أفكاره السياسية وتكون سنداً له في إشهار موقفه من هذه القضية أو تلك. هو «السوفياتي» الأخير في زحلة الذي لم يقتنع بعد أو يصدق أنّ الاتحاد السوفياتي قد انهار في لمحة بصر، مؤكداً للقاصي والداني أنّ «بلاد الرفيق فلاديمير إيليتش لينين ستعود أكثر قوة وتطوراً لتتحدى الغطرسة الأميركية».
أمضى غارابيتيان جلّ حياته (66 عاماً) في الحزب الشيوعي اللبناني منذ كان طفلاً يرافق والده مؤسس الحزب في بلدة رياق عام 1930 حيث كان يعمل بائعاً متجولاً على عربة صغيرة، واشتهر حينها في المنطقة باسم «جورج أبو عرباية». «كنت أوزع المناشير التي كان يحضرها والدي من دمشق، وقد اشترط عليّ أن أقرأ الكتب والمجلات حتى يحقّ لي الانتساب إلى الحزب» كما يقول، لافتاً إلى أنّ والده «كان مشتركاً في مجلات سوفياتية»، أبرزها مجلة «الأنباء» ثم «المدار»، و«منها تعلمت كل شيء، وأصبحت موزعاً لها ولغيرها من المجلات التي تصلنا بالبريد من موسكو، مثل المجلة العسكرية والمرأة السوفياتية». ويروي كيف أنه كان يشبه شخصاً في صحراء يتعطش إلى نقطة ماء واحدة «عندما كنت أنتظر مجلة المدار الشهرية»، قبل أن ينتقل إلى قراءة كارل ماركس ولينين وفريدريك أنجلز باللغة الأرمنية «حتى أصبحت أصولياً في الانتماء إلى مدرسة الاتحاد السوفياتي البولشفية العظيمة التي غيّرت وجه العالم».
تعمّق «السوفياتي» بالقراءات الفكرية والفلسفية حين اشتد عوده، وأنهى المرحلة التعليمية المتوسطة، متفرّغاً لاحقاً للعمل والشغل في التجارة مع والده الذي تهجّر من تركيا إثر الحملة ضد الأرمن أوائل القرن العشرين. استقر مع أهله في رياق قبل أن ينتقلوا إلى زحلة، و«بقيت أعمل في توزيع الصحف والمجلات كالأخبار والنداء والمطبوعات السوفياتية، وصرت أشتري الكتب دورياً وأتابع الإصدارات الفكرية الماركسية». يعلن أنّه «علماني حتى العظم، وأكره كل رجال الدين الذين يعتقلون الإنسان منذ لحظة ولادته». كره ليون لرجال الدين أدخله في هوايات لم تكن واضحة لديه في بدايات تكوين وعيه السياسي، فراح يجمع قصاصات من الصحف والمجلات وكل العناوين التي تتحدث عن مخاطر الطائفية والمذهبية، ويبرزها على رفوف مكتبته وجدران منزله، «أدمنت عليها منذ 30 سنة، وهدفي تنبيه كل من يزورني إلى هذه المخاطر». يقول: «رجال الدين يفسدون مجتمعنا. أحتفظ بكثير من الأدلة التي تدينهم، لا سيما أحاديثهم وتصريحاتهم».
لا تكتمل «مانشيتات» الصحف والمجلات التي تحضّ على نبذ الطائفية، وتزيّن منزل غارابيتيان في زحلة، من دون صور ماركس وأنجلز ولينين وستالين وتشي غيفارا وخالد بكداش وفرج الله الحلو وجمال عبد الناصر وكمال جنبلاط. «مانشيتات» وصور لم تترك له مساحة صغيرة من الهدوء وهو المدمن اليوم على القراءات العلمية بعدما تعب من الكتب الفكرية والسياسية والعسكرية.
الحرب الأهلية اللبنانية هجّرت غارابيتيان من مدينته زحلة حيث حوّلته هويته السياسية إلى متهم، فغادر زحلة إلى رياق ليؤسّس الجناح العسكري للحزب الشيوعي اللبناني هناك في بدايات 1976. ويشرح هنا كيف تعرض لضغوط كثيرة ومطاردات ومحاولة اغتيال، دفعته إلى الاستقرار في رياق حيث راح يدرب الشباب في عرسال واللبوة والهرمل وصنين وعينطورة. ويردف: «اعتقلت أكثر من مرة عند قوى حزبية وأمنية بسبب هويتي اليسارية، وهاجرت في 1986 إلى أرمينيا حيث لمست أهمية الاتحاد السوفياتي، الوطن الأول للشيوعية».
زار غارابيتيان «الاتحاد السوفياتي» أكثر من مرة قبل الانهيار وبعده. «كنت حين أزور ضريح لينين في موسكو أعود إلى لبنان أقوى. بعد الانهيار زرت أرمينيا مرة واحدة، وندمت كثيراً على هذه الزيارة. شاهدت كيف يأكل الفقر الناس هناك. هم نادمون على انهيار الاتحاد، لكنني قلت لهم: لا تخافوا، الاتحاد عائد لتصويب الأخطاء في العالم». ويردف: «لم أستطع العيش في أرمينيا. كل شيء تغير هناك، حيث نقلت نصف مكتبتي مع وثائق ورسائل سرية من أيام والدي في زمن النضال السري هنا وفي دمشق». ويستدرك: «أفضّل العيش هنا في لبنان على أن أعيش هناك في ظل دولة ضعيفة. يوم كانت أرمينيا ضمن الاتحاد السوفياتي، كانت الحياة أفضل». يبدو واثقاً بالعودة يوماً ما إلى الساحة الحمراء في موسكو التي «سترفرف الرايات الحمراء فيها مجدداً».
«ينبش» غارابيتيان أرشيف الاتحاد السوفياتي من مكتبته وخزائن منزله الصغير، و«نبكي دماً على انهيار الاتحاد الذي كان حليف الشعوب المقهورة ويتصدى للغطرسة الأميركية». هو لم يجد أمامه اليوم سوى وضع مجسمات صغيرة لطائرات «ميغ» مقابل طائرات «أف 16» الأميركية بطريقة توحي بأنّ «الميغ» أقوى و«أميركا ستنهار قريباً». يقرأ من كتاب يسحبه من المكتبة: «إن القدرة القتالية للقوات المسلحة السوفياتية هي سبيكة متينة من التجهيز التكتيكي الرفيع والمهارة العسكرية والروح المعنوية التي لا تلين…».
الروح المعنوية القوية التي لا تلين عند غارابيتيان لم تدعه ينهزم يوماً في حياته الاجتماعية التي يحافظ عليها، مبقياً خيوط التواصل مع «رفاق» قدامى أو من يحب أن يتعرف إليه من جيل الشباب للاستفادة والتعلم من تجربته. «صحتي جيدة وأمارس الرياضة يومياً. تركت العمل منذ شهر بعدما وجدت أنّ رب العمل يستغلني ولا يعطيني حقي». يبدو مقتنعاً بأنّ رجال الدين يسوقون الإنسان إلى معتقل المعابد. أرباب العمل يفعلون الشيء نفسه، فهم يفسدون الاقتصاد والعدالة الاجتماعية».
________________________________________
نظيفة وفاسدة
ينتقد ليون غارابيتيان العمل الحزبي في لبنان، «الأحزاب النظيفة في لبنان انتفت، الأحزاب المريضة والفاسدة هي الأقوى الآن». ويبدي حزنه على ما آل إليه وضع الحزب الشيوعي اللبناني، «فالحزب لم يعد كما كان، فقد صار أكثر من حزب، أبكي دماً عليه». ويعلن غارابيتيان أنّه سيبقى في وجه الطائفيين هنا… وفي موسكو.

3/12/2011

Facebook Comments

POST A COMMENT.