بومدين الساحلي ||
إذا أنصتَّ السمعَ لأبي سليم من دون معرفة مسبقة ومن دون أن تراه أثناء ذلك، أمكنكَ الاعتقاد بأن صاحبَ هذا الصوت لم يتجاوز عمرُه عقدين من الزمن بأحسن الأحوال، فالنبرةُ العالية والحجة الحاضرة والثقة المكينة والجرأة المتقدمة والعزيمة الصلبة خصالٌ عرف كيف يحافظ عليها على الرغم من أنه تجاوز سبعينَه بسنوات عدّة، ولربما شابَهَ في بعضها الأرضَ التي خرج منها إلى الوطن: رأس بعلبك، تلك القرية التي تسند بظهرها آخرَ جروف الصخر في الجبال الشرقية لتسهرَ على عيش جيرانها عند نهايات البقاع، والتي صدّرت إلى الوطن رجالاً أشداء قاتلوا الطائفية والمذهبية باكرا.
يوم الأربعاء الماضي رحل أبو سليم دون سابق إنذار ودون وداع، على الرغم من الوجع المؤلم الذي ألَمّ بصدره، كان مصرّا أنه مجرّد عارض عابر: مات كما عاش، عنيدا بمفاهيمه التي لم يبتغِ منها يوما إلا العدالةَ الاجتماعية القائمة على حق الفقراء بعيشٍ حرّ وكريم.
ستفتقده مدينة بعلبك التي عاش فيها ردحا من الزمن مناضلا ومطالبا ومدافعا وباقيا بين جنباتها، يوم سعى الظلاميون للقضاء على حزب المقاومة الوطنية عبر اغتيال قياداته، وستتذكره بلدته في انحيازه لها صافيا ومتدفقا كما الماء الذي يتفجر من باطن صخرها.
بالأمس، شيعناه إلى مثواه الأخير. توافد الشيوعيون «العاملون» و «القاعدون» من كل أرجاء البقاع، بدا مشهدُهم الكهل في الباحة الخارجية للكنيسة، صورةً مصغّرة عن حزبهم، رجالٌ أوادمُ وأحضانٌ ودموعٌ وحلقاتُ تذكُّرٍ ثم تذكُّرٍ ثم تذكُّرٍ، ثم تفرّقٌ ورجوعٌ إلى البيت من أجل تحصيل ما فاتهم من التذكّر: «كاسَك بو سليم، كاس الشيوعيين الأوادم».
19/3/2016
POST A COMMENT.