علي المصري: الحلم في خرم إبرة

عفيف دياب ||

لم يتعب الخياط علي المصري من لغة «الإبرة والخيط» بعد. أكثر من 5 عقود والرجل يروي يومياً سيرة حياته وحلمه بأن يكون من أشهر مصممي الازياء. قتلت الحرب الاهلية اللبنانية حلم حياته، لكنها لم تمنعه من البحث عن سعادته خلف ماكينات الخياطة وتطريز علاقات إنسانية ملونة

******* 

«العدالة تنام لكنها لا تموت». قول يرفعه الخياط «العتيق» علي المصري في محله الصغير في بلدة تعلبايا البقاعية. إنها العدالة الاجتماعية التي أمضى المعلّم علي نصف قرن من الزمن باحثاً عنها خلف ماكينات الخياطة وفي خرم الإبرة. لم يكلّ أو يتعب بعد من رسم مشهد يومياته بالإبرة والخيط. مهنة عشقها حتى الثمالة، منذ أدخله والده في العام 1960 إلى معمل صغير في زحلة ليتعلّمها عند خياط أرمني وهو لم يتجاوز السنوات التسع. منذ ذلك التاريخ، بدأ الطفل علي يحلم بأن يبني مصنعاً وأن يدخل عالم تصميم الأزياء، ولا يزال الأمر حلماً إلى اليوم، ذلك أن «طغاة الحرب الأهلية دمروا طموحي وحلمي سنة 1975 تاريخ اندلاع حربهم».

قبل ذلك بقليل كان علي قد افتتح محلاً صغيراً في حوش الأمراء، على أمل أن ينطلق منه نحو «احتراف فن اللعب بالقماش»، كما يقول، متذكراً سنوات الحرب الأهلية وما فعلته بمشروعه الحلم الذي «تبدّد مع سحب دخان حرائق الحرب الأهلية العبثية». يومها صار همّه، كما كلّ اللبنانيين، أن يبقى مع زوجته وطفليه أحياء يرزقون… من الإبرة والخيط. لذلك كان لا بد من الحفاظ على المحل أيضاً. يقول: «خلال الحرب الأهلية التي دمّرت كلّ شيء، أصبح همي أن أحافظ على أمن عائلتي وأمن ماكينات الخياطة والعدّة التي أعمل بها». ويكشف أنه تعلّم الصبر من هذ المهنة: «صبرت على الحرب وخرابها، وصبرت على تحطيمها حلمي بعالم الأزياء، كما تعلمت في المقابل كيف أحافظ على هذه المهنة التي لن أتركها على الرغم من أنها أصبحت متعبة ولا تنتج كثيراً في ظل تطور صناعة الألبسة الجاهزة». يعرف علي أن كثيرين لا يوافقون على قراره هذا الاستمرار في مهنة لم تعد تطعم خبزاً، «وهناك من يقول عني اليوم أنني دقة قديمة، لكنني لا أريد أن أخون مهنتي». يتذكر جيداً أن هذه المهنة كان لها عزّ في السابق: «كان عندي خمسة عمّال في الماضي يساعدونني في العمل. أما اليوم فقد أصبحت وحيداً في المحل ولم يعد أحد يريد تعلّم هذه المهنة حتى أولادي». وهنا يعترف «بصراحة أنا لم أورثها لأحد من أولادي. هم أخذوا خياراتهم المهنية واستقرارهم الاقتصادي من مهن أخرى». ربما كان خياره صائباً، إذ إنه اليوم الخياط الوحيد في هذه المنطقة، «لكنني طبعاً لم أعد أقوم بأعمال الخياطة الكاملة من تفصيل للبدلات والسراويل والقمصان، بل يقتصر العمل على إنجاز بعض التصليحات». لكن هذا العمل الذي قد يبدو بسيطاً للبعض، يحتاج إلى وقت وصبر، إذ يقول علي: «شغلتنا بدها صبر وطولة بال… أنا اليوم الخياط الوحيد هنا. خياط الفقراء والناس اللي متلنا. والبعض يسمونني الخياط الشعبي».
وعلى الرغم من أنه الخياط الوحيد، فإن علي المصري لا يتقاضى المال من زبائن ــ أصدقاء بدل تصليح بنطال أو قميص، علماً أن معظم زبائنه قد يكونون من أصدقائه. يشرح وضع مهنته اليوم بالقول: «الزبون اليوم هو زبون تصليح بنطلون، واللي بيجي لعندي هو إما صديق أو قريب، أو زبون حالته متل حالتنا. ما إلك عين تاخذ منو. كلها شوية قصّ ودرزة صغيرة. عيب تاخذ مصاري». في المقابل، لا ينفي أن صداقاته ساعدته في الاستمرار بهذه المهنة: «علاقتي الاجتماعية الطيبة مع الناس ساعدتني كثيراً، إضافة إلى اني أتمتع بالصبر وطولة البال وهما صفتا عملي». وهنا يشرح ضاحكاً نظريته الخاصة في طولة الباب «هي مثل المغيطة… عليك أن تعرف متى تضبط نفسك ومتى تطلق لها العنان». وبما أنه يحكي عن النظريات، يطلق نظرية خاصة بالخياطة، أو أحد أسرار المهنة: «عليك أن تعرف أن للجسد حقه وللقماش حقه، ومتى نجحت في التوفيق بينهما تكون قد عرفت سر هذه المهنة. القماش يحكي معك ويقول لك أريد هذا الجسد أو ذاك».
لغة علي المصري في الخياطة وأسرار «خط سير الإبرة والخيط» كما يقول، لا تتوقف هنا فقط. للرجل الستيني لغة سياسية وفنية وأدبية أيضاً، إذ يشعر زائر المحل بأنه دخل إلى صالون سياسي وثقافي وأدبي وفني. صور فيروز وعاصي وزياد الرحباني وجوزف صقر ومارسيل خليفة وأميمة الخليل وغيرهم من الموسيقيين والفنانيين اللبنانيين والعرب، منتشرة على جدران المحل وبين الأقمشة وأكياس ثياب الزبائن وعلب الإبر والخيوط الملونة، إضافة إلى عشرات الجمل والعبر والأقوال السياسية المنتقاة بعناية فائقة، والتي تنمّ عن سعة ثقافة هذا الخياط وقراءاته المتنوعة. لم يمنعه جلوسه الطويل خلف ماكينات الخياطة من قراءة كتب التاريخ والأدب والفن والفكر والسياسة والاقتصاد والفلسفة. حتى «إبرة» الراديو الصغير، الذي يرافقه، لا تخيّب ظنه فلا تلتقط إلا موجة إذاعات تبث أغاني قديمة أو «راقية» كما يصفها.
إضافة إلى عشق علي المصري للإبرة والخيط، والموسيقى، يبقى للكتاب حصة الأسد في منزله. ساعات العمل الطويلة التي يمضيها في الخياطة والقص والتقصير والتضييق، يختمها ليلاً في القراءة قبل أن يخلد للنوم بانتظار شمس نهار جديد يبدأ مع فيروز وينتهي بأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وما بينهم من نشرات أخبار لمتابعة «تطورات البلاد والعباد» كما يقول. يحفظ أقوالاً مأثورة لعدد من الكتاب ويستشهد بها، ويحرص في إطار لقائنا معه على التذكير بقول للكاتب السوري محمد الماغوط «الطغاة كالأرقام القياسية لا بد أن تتحطم في يوم من الأيام»، وقول آخر للروائي والكاتب الفرنسي إميل زولا «الحوادث الكبرى لا يتحكم بها الزعماء، بل الجماهير وعامة الناس الذين يجدون مصير العالم وفقاً لآمالهم وأحلامهم». ولذا يفصل علي الحياة السياسية العربية واللبنانية ويقدّم لها قراءاته الخاصة وفق حسابات «متره» السياسي. يقول: «قراءاتي السياسية والفكرية والأدبية من الفكر الإسلامي إلى الماركسي وما بينهما من أفكار وايديولوجيات، ساهمت في تطوير المعرفة عندي أنا الذي غادرت المدرسة من الصف الخامس ابتدائي». ويتابع «يجب أن تكون الجريدة معي يومياً. لا أبدأ العمل قبل قراءة الصحيفة لأن ما يفصّل للبنان والمنطقة يحتاج الى متابعة يومية». ويختم «هلق خلصنا تزبيط البنطلون.. لا تنس أن الطغاة مثل الارقام القياسية».

مهنة علّمت 5 أولاد

تلقى الخياط علي المصري عروضاً مغرية للسفر والعمل في الخليج العربي، لكنه سافر مرة واحدة في حياته إلى الأردن و«صمدت هناك 10 أيام فقط. شعرت بأنني في الموقع الخطأ». ويحنّ كثيراً الى ايام زمان «كانت ايام العز، من هذه المهنة علمت اولادي الخمسة وأخذوا خياراتهم التعليمية والمهنية. أفرح حين يزورني احفادي في المحل».

عفيف دياب

26\10\2011

Facebook Comments

POST A COMMENT.