احمد إبراهيم ||
ضاقت سُبل الحياة علينا من كل حدبٍ وصوب، زوجي وأنا لم نستطع أن نكمل تعليمنا الجامعي كما أغلب الطلاب الجامعيين في الرقة، فقط لأننا من الرقة. وجاءت داعش لتكمل حفلة التضييق والخنق بقراراتها اللامعقولة، وبدأت أيضاً بملاحقة ناشطي الثورة الأوائل، مما اضطر زوجي إلى الهجرة، كما أغلب شباب الرقة، إلى تركيا. ومنها غامر بمستقبلنا وبحياته عبر رحلة بحر كُتبت له فيها النجاة ليستقر في ألمانيا، ولكن بعد فقد ثلاثة من أعزِّ أصدقائه.
بقيتُ وحيدةً في الرقة، أتنقلُ بين بيت أهلي وأهله إلى أن حصل على الإقامة في منفاه الجديد، وطلب مني الحصول على جواز سفر. وهنا بدأت معاناتي الحقيقية.
في كراجات «البولمان» في الطرف الجنوبي لمدينة الرقة هناك مكتب «الحسبة»؛ الذي يجب أن يمنحني إذن سفر، وهنا كانت المشكلة، فقد رفضوا منحي الإذن حتى يكون معي مُحرَم؛ ومُحرميَّ الوحيدان هما زوجي وأخي الوحيد الذي هاجر إلى تركيا على نية اللحاق بزوجي إلى أوروبا.
تدارستُ الأمر مع سِلفي أيهم «شقيق زوجي»، كانت قراراتنا للنجاة من داعش تشابه عبثية أوامرهم، فاتفقنا على كتابة عقد صوري عند مكتب الزواج الخاص بداعش لحلّ المشكلة. وبدأ المشرعون والمحللون من عائلتي وعائلة زوجي بالتحليل والتحريم، وبذلوا جهوداً في استذكار كل الآيات والأحاديث والفتاوى والأمثال. مع أنني أعتبره أخي، وهو كذلك، وأعرف أن ذلك لا يجوز شرعاً، إلا أننا في الرقة حيث لا قانون يقبله عقل ولا منطق، قررنا أن يكون قرارنا مشابهاً لواقع الحال، وهكذا كان: سجّلنا زواجاً صورياً، وقصدنا دمشق.
لحظةَ وصولنا إلى دمشق، وفي «الكراج»، جرى اعتقال سِلْفي أيهم من قبل المخابرات الجوية بلا سبب، فهو قد أنهى الخدمة الإلزامية منذ زمن، ولم ينتسب لأي فصيل عسكري أو سياسي. أصبحتُ وحيدةً مرة أخرى.
ثلاثة أيام وأنا أتخذُ من الرصيف المقابل للمفرزة التي اعتقلته منزليّ النهاري، حاولتُ السؤال عنه ولم أفلح، طردوني وأهانوني وهددوني بالاعتقال إن جئت للسؤال عنه مرة أخرى. تهمة «الداعشية» جاهزة، فأصبحُ ببساطة «مجاهدة نكاح». يكفي أن تكوني من الرقة حتى يصدّق أي شخص أي تهمة عليكِ.
مخذولةٌ ووحيدة غادرتُ باب الفرع، تهت في شوارع العاصمة التي عرفتها خلال أربع سنوات من دراستي الجامعية: «كل سنتين بسنة، فالحياة الجامعية حلوة، والله».
لكن دمشق لا تشبه تلك المدينة التي عرفتها سابقاً، تحولت مدينة الياسمين إلى مدينة لا قانون فيها سوى قانون مافيات وعصابات الأسد والمستفيدين من الحرب، تبيع كل شيء وترتشي من كل شيء.
«جواز السفر» المستعجل بثمن، والذي على الدور أيضاً بثمنٍ آخر: «وما أدراك هنا بالدور والانتظار». قررتُ أن آخذه مستعجلاً، أي في اليوم نفسه. كان السماسرة ينتشرون على باب مديرية الهجرة والجوازات، ويلتصقونَ بك كالذباب.
حصلتُ على الجواز عبر مافيا يتحكم بها العميد رئيس قسم الجوازات، الذي لا يقبلُ العملة السورية أو غيرها؛ فقط بالدولار: «هاتي دولارات وأطالعلك جواز سفر نظامي للبغدادي نفسه»، قالها وأنا أعدّ الورقات الخضراء العشر على يده.
تجرأتُ وسألته إن كان يستطيع المساعدة في أمر أيهم، أجلسني بمكتبه الفخم الذي تتصدره صورة كبيرة لبشار الأسد، فقد ذاق طعم ملمس الدولار ورأى أن في حقيبتي بقية منها، أجرى اتصالات أمامي، آخرها كان مع «سيادة المقدم». وبلكنته المعروفة تحدث: «وُلو… سيادة المقدم هدولي بالزات من جماعتنا بالرقة، ما بدنا يصِرلهم شي. وحياة الريس عندي بس ابعتلي ياه وشوف الشباب كمان، السكّرة عندي… عراسي سيادة المقدم مستنيهم… إنتْ جاي، ولو ما في سِقه… هههه».
كرشه يهتز مع ضحكته وهو يغلق السماعة: «الله يخلينا سيادتو»، وأشار إلى الصورة خلفه دون أن يلتفت إليها. «تعرفي بنتي إنتو أهل الرقة كتير كويسين، وكمان مظلومين». قالها وهو يرفع بنطاله ليغطي كرشه الكبير. «تعرفي سيادتو بيحبكِن كتير، والله، ومشان هيك بدنا نساعدكن، ما تقولي مشان المصاري، يلعن أبو المصاري. هلق سيادة المقدم بيجبلك أخوكي، بس متل ما سمعتي الشغلة مِكِلفة كتير وبدها فتّ مصاري، سيادة المقدم هلق بدو 3000 دولار وشفتي بعينك قديش تعبت تا أقنعتو، والله بحضّي هو كمان كتير كويس وبيحبكن أهل الرقة».
«ولكنني لا أملك هذا المبلغ»، قلتُ.
«دبريه، بنتي، دبريه».
قلت له: «2000 دولار هي كل ما لدي، و30 ألف سوري».
كنتُ قد أخذتُ كل ما أمكن جمعه من مال تحسباً لمثل هذه الموقف.
«لا بنتي، ما بيكفوا والله، الشغلة مكلفة كتير، وتعرفي إنتو بالرقة كلكن عراعير ودواعش. معناتا رح احكي مع المقدم ما يجيبو»
«لا لا، طوّل بالك، طيب أنا رح أستغني عن جواز السفر سيادة العميد»، قلتُ مناورة.
«لا يا بنتي جواز السفر مهم جداً للسوري وإنتي بالذات. لا بنتي كل شي إلا جواز السفر. بعدين الجواز انطبع ما فينا نرجعو».
ضغط على الجرس وفتحَ الباب مباشرة: «ولك يا بني آدم شو صار بجواز الست نورا».
«ثواني سيدي وبيخلصو المساعد عمار».
«شفتي بنتي، الجواز خالص»، وهنا لمحَ إسوارتين بيدي اليمنى: هدولي دهب؟
سحبت كمي فوقهما بمحبة النساء للذهب، وهما آخر ذكرى من يوم عرسي بعد أن بعت بقية ذهبي لتغطية نفقات سفر زوجي.
«شو بيسوا هدول مع الحلق اللي بأدانيكي؟».
فكرتُ بحريةِ أيهم وأنا سببُ اعتقاله، فكرت بحماتي التي «ستنتف ريشي»، أنا التي لم تحمل لها بعد بحفيدها، فما بالك بسجن ولدها. ولكن كيف رأى الحلق؟ أم أنه افترضَ أني ألبس حلقاً وأنا التي يغطي رأسي حجاب؟ «خيو، أنا ما بدي جواز السفر»!
ضغطَ الجرس ثانيةً بحنقٍ واضح، وما أن فُتَح الباب حتى قال: «يا إبني خود هاي، هلق عرفنا إنها عم تساعد الإرهابيين، وكمان الدواعش داسينها علينا».
فغرتُ فاهي غير فاهمة مجرى الحديث، وذاك العسكري الفارع الطويل ذو الوشوم المتعددة لصورة بشار وماهر وحافظ على ساعديه يُنهضني من الكرسي.
«قومي وليك، جاي هون وكمان بدك جواز سفر؟»
في هذه اللحظة دخل من افترضته المساعد عمار: «سيدي جواز الست نورا جاهز ولساته سخن كمان!» رماه على المكتب، ووقفَ فاركاً يديه منتظراً على ما يبدو حصته من الكعكة، فأشارَ له العميد بقفا يده أن انصرِف. حيّا سيده وانصرَف.
«خلاص سيدي رح دبر كل شي متل مابدك»، قُلت.
أشارَ بحاجبيه لصاحب الوشوم الذي ترك ساعدي وانصرفَ هو الآخر، قلَّب صفحات الجواز: «شوفي ولا الليدي ديانا بالصورة، بس كمان هاتي، كمان لأنو المساعد عمار خلصو بسرعة».
كانت نيته ابتزازي إلى آخر ما أملك، أخرجتُ من حقيبتي ألف ليرة سورية ووضعتها على المكتب.
«ولك شو هي، إنتي ناسية إنك بالشام، هي يا دوب تشتري خمس صندويشات فلافل». أخرجتُ أخرى وأخرى وأخرى وهو يبدي امتعاضه حتى الخمس ورقات من فئة الألف، نظر إلى صورة حافظ الأسد على العملة الورقية الأخيرة، وقال: الله يرحمك سيدنا!
«إي بنتي والله أنا حبيتك، هاتي لشوف»، أخرجت من حقيبتي 2000 دولار ورميت من يدي إسوارتي الذهب، ولكنه أشار إلى أذني يذكرني بالحلق، أدرتُ وجهي لأنزعهما.
– «ولك بنتي أنا متل أبوكي».
– «يلعن أبوك»، قلتها في قلبي طبعاً.
«أديش بيكفيكن أجرة للرقة ومصروف طريق، احسبيها وهاتي باقي الـ25 ألف سوري اللي بقوا معك، يللا المعاملة مع الله، هاتي 15000 وخلي 10000».
أعطيتهُ ما طلب، وضعَ الذهب في جيبه وكذلك المبلغ السوري، ووضع الدولارات في مغلف رسمي أصفر عليه شعار الجمهورية العربية السورية.
في تلكَ اللحظة دخل شخص آخر بلباس مدني في الأربعين من عمره، فهبّ العميد: «تحياتنا سيدنا»، قبلاتٌ أعاقتها كرشا الرَجُلين المنتفخة، التي لم أرَ بمثل انتفاخها من قبل: «هون لا، والله إلا هون»، وهو يشير له إلى الكرسي خلف المكتب.
«سيدنا هدولي جماعتنا الكويسين اللي بالرقة وكتير عم يساعدونا ورح يساعدونا وكتير بيحبوه للرئيس، مو هيك بنتي؟».
قبل أن أجيب، وبالتأكيد ستكون إجابتي بنعم، أكمل: «والجماعة سيدنا والله ما عندهم غير 2000 والباقي رح نسجلو برصيد محبتهن لسيادتو»، وأشارَ إلى الصورة الكبيرة المعلّقة على الجدار، وهنا دسَّ المغلف الأصفر بشعار الجمهورية في جيب المقدم الذي جلس تحت صورة بشار.
«تعرف والله لو مو خاطر عيون سيادتو ومحبتو للرقة وأهلها، وعيونك ولو أعرف إنو المبلغ هيك ما كنت جيت، على كل حال ناديلهون من برا».
قبل أن يُفتحَ الباب ذُهِلت، هم يسرقون بعضهم وأيضاً هم يتكلمون بالمكشوف أمامي، أدخلوا أيهم. «ولك شو مسوايين فيو؟».
ردَّ أحد اللذين كانا يقتادانه أو يسحلانه، فهو لا يستطيع الوقوف «ما في شي بس واجب الضيافة، مو معقولة جاي من الرقة لهون ما نشوف خاطرو».
«روحي بنتي، هاي هويتو وهادا ضبط شرطة، إنو تعرض لحادث سيارة، خديه وبوشّك عالرقة، وما بدي كلمة برات الطريق، فهمتي؟».
هززت برأسي أن نعم.
نزلنا الدرج وأيهم يتعكز عليّ، فلم يكن يستطيع النظر، كانت عيناه متورمتان جداً ولا يظهر منهما سوى خطٌ وسط انتفاخهما.
رُدَّت له الروح رغم كل آلام جسده، وغدا غزالاً يريد فقط الابتعاد وهو يتعالى على جراحه.
اقترحتُ الذهاب إلى الطبيب، رفض: «لا دكتور ولا شي… أخذتي الجواز؟»، أجبتهُ بنعم، فأوجعتهُ الابتسامة، كان صفُّ أسنانه العلوي الأربعة قد تبخر وشفته العليا متورمة، ولكنه أصرَّ أن نذهب إلى الكراج.
«أبكي على شام الهوى بعيون مظلوم مناضل… وأذوب في ساحاتها بين المساجد والمنازل».
رغم سوداوية المشهد وتقطيع أوصال المدينة بالحواجز، خطرت ببالي هذه الأغنية التي أنشدها طفل صغير عن الشام، الشام هذه التي تشبه الرقة تلك.
عليكَ أن تحسبَ حسابك، يجب أن تدخلَ الرقة الساعة السابعة مساء، فبعدها غير مسموح بالدخول إلى المدينة، هو قانون فرضه داعش في دولته التي تتشابه كثيراً مع هذه الدولة هنا.
قال أيهم: «ولو كان، نبيت بحمص، نبيت في الطريق، لن نبقى هنا».
لم نتأخر كثيراً في الكراج، فقد وصلنا حمص مساء، وهنا أهالي الرقة يحتاجون إلى تسجيل أمني أيضاً. هنا ليست حمص؛ مدينةُ أشباح تردد أصوات قذائف ورصاص ولكنه كان بعيداً. كان الحصول على الإذن روتينياً، ربما بسبب حالة أيهم الصحية والتقرير الذي أعطونا إياه عن حالته.
قضينا ليلنا في فندق متواضع لا أعرف اسم المنطقة التي هو فيها، وفي صباحِ اليوم التالي توجهنا إلى الكراج، ولكن لم تكن هناك رحلة حتى الثانية عشر ظهراً.
لم نغادر الكراج حتى موعد السفر، لم نكن كثيرين، ربما عشرون مسافراً غالبيتهم من النساء وكبار بالسن. بعد ساعة تقريباً من انطلاق «البولمان» أوقفه خمسة شباب يرتدون الزي العسكري ويحملون بنادق روسية ويتزنرون بقنابل، صعدوا إلى الباص وقالوا إنهم سينزلون قبل حاجز «أثريا» عند حاجز «الدفاع الوطني». كانوا يتحدثون بصخب عن بطولاتهم، عرفنا من خلال أحاديثهم أنهم من «الدفاع الوطني». أشعلوا جميعهم سجائرهم، وما إن انتشرت رائحة الدخان حتى جاءهم معاون السائق الذي طلب منهم إطفائها، فالتدخين ممنوع والمكيّف شغال، وهناك مرضى يزعجهم الدخان، ولكنهم رفضوا.
«روح شوف شغلك!».
«بس، يا شباب…».
«قرد ينتعك ولاك، روح شوف شغلك، نحنا عم نموت وإنتو عم تتمنيكوا رايحين لعند الإرهابيين!».
أدارَ الرجل ظهره عائداً إلى مقدمة الباص، ولكن أحدهم وضع قدمه أمامه فوقع على وجهه وسط قهقهتم، وهنا تدخّل شاب مبرزاً بطاقة عليها صورة، لم نعرف بدايةً من هو: «ليش هيك شباب؟».
«علي، شوف العرصة التاني شو بدو».
«شباب كمان أنا عسكري، هيك ما بيصير، لو سمحتوا بلاها هالسيجارات».
خلال ثوانٍ كان علي وجماعته يطفئون سجائرهم على وجه الشاب ومعاون السائق، وضعوا «الكلبشات» بأيديهم وجلسوا فوق أجسادهم بسجائر جديدة.
«شو ولاك خروات في حدا بدو يتمنيك كمان؟».
يجول بنظره على جميع الركّاب، وعندما لم يتلقَ جواباً اتصل بأحدهم عبر جهاز لاسلكي، وطلب من محدّثه أن ينتظرونهم عند قرية على الطريق.
أوقفوا الباص على يمين الطريق، وسحلوا الشابين سحلاً من ممر الباص إلى ظهر سيارة بيك آب كانت تنتظرهم. لم تنفع توسّلات ركاب الباص في تركهما، على العكس، بعد أن شرح علي وزملائه القصة على ما يبدو ونحن نراقبهم من خلف زجاج الباص أنزلونا كلنا، صادروا جميع الجوالات ومن كل شخص 2000 ليرة كبيراً كان أم صغيراً. لم نعترض. وزيادة على معاون الباص والشاب العسكري أخذوا كهلاً لأنه لم يكن يملك جوالاً ولا مالاً حتى فداه أحد الركاب، فتركوه بصفعة على وجهه ورفسة بظهره. ثم سمحوا لنا بالمسير.
عند حاجز الجيش على نقطة أثريا قدم سائق الباص شكوى، كنا جميعاً ننظر إلى ساعاتنا ولكن الإجراءات أخذت وقتاً طويلاً حتى جاء المقدم، مسؤول الحاجز الذي أخذ إفادتنا واحداً واحداً بروتينٍ ممل، ووعد أنه بعد غد «تراجعون سائق الباص بالكراج في الرقة، وتأخذون هواتفكم ومصاريكم». كان يتحدث إلينا وهو يقف بجانب السائق، تكلمنا جميعنا تقريباً في الموضوع نفسه، وعن داعش في الوقت نفسه. كنّا نعتقد أنه يجب أن نقول داعش، ولكن بعد قليل لم نعد متأكدين من ذلك. قلنا لسيادته إن داعش لا تسمح لأحد بعد الساعة السابعة مساء من الدخول إلى الرقة.
زمّ أصابع يده اليمنى أن اصبِروا، جاء أحد عسكرييه وأعطاه ورقةً نظر إليها ووقَّع عليها، ثم أعطاها لسائق الباص:
«هاي ورقة بس توصل حاجز الدولة اسأل عن أبو الجحجاح واعطيها له، وقللو بيسلم عليك المقدم، وهو رح يفوتكن».
في التاسعة والنصف كنّا، استثناءاً، ندخلُ الرقة.
17-11-2015
*كاتب سوري من مدينة تل أبيض
http://aljumhuriya.net/34024
POST A COMMENT.