وات أباوت ذا صحافة

يجاهد مئات الصحافيين العرب كلّ يوم ليثبتوا، لأنفسهم أوّلاً، أنّ خيارهم المهنيّ، ما زال يحتفظ بشيء من المعنى والجدوى. في أحيان كثيرة، يفشلون. ارتباك الصحافيّة المصريّة شيماء عبد المنعم أمام ليوناردو ديكابريو، خلال المؤتمر الصحافي التالي لفوزه بجائزة الأوسكار الأحد الماضي، يعزّز التشاؤم بمستقبل الصحافة العربيّة كما يجري «ارتكابها» في زمننا الراهن.
تستحقّ عبد المنعم ما نالته من تقريع وسخرية خلال الأيّام الماضية، بالرغم من أنّها تستحقّ الشفقة أيضاً، وربّما بعض التعاطف، لأنّ الخطأ ليس خطأها وحدها، بل خطأ منظومة متكاملة تتغافل عن أبسط المعايير المهنيّة، وتحوّل أيّ نقد للأخطاء المرتكبة يوميّاً، في الصحافة المرئيّة والمكتوبة على السواء، إلى «مسألة عداوات شخصيّة».
لم تخطئ عبد المنعم لأنّها لا تجيد اللغة الانكليزيّة. كلّنا معرّضون لنبدو أحياناً أقلّ ذكاءً وتمكّناً حين لا نتحدّث بلغتنا الأمّ. أخطأت عبد المنعم حين لم تقم بعملها كما يجب، وحين فشلت في طرح سؤال مفهوم، وذلك من أبسط ما يحتّمه الخوض في مهنة الصحافة. أخطأت حين خاضت مع صحيفتها في حملة تبريرٍ لما حصل، تضمّنت ادعاءات مضحكة بتحقيق إنجاز مهنيّ كبير، وبلغت حدّ الدعوة المبطّنة لشكر الصحافيّة على إيصالها صوت الصحافة العربيّة، إلى هوليوود. أين الإنجاز المهنيّ في تغطية حفلة جوائز سنويّة باتت أخبارها تنتشر لحظة بلحظة على «تويتر»؟ أين الإنجاز المهنيّ في طرح سؤال مفكّك على ليوناردو دي كابريو في مؤتمر صحافيّ يحضره مئات الصحافيين من كلّ دول العالم، والتعاطي مع ذلك كـ «انفراد»؟ وكيف يكون ذلك «سبقاً»، في وقت كانت كلّ كاميرات العالم مثبّتة على وجه بطل «المنبعث»، احتفالاً بأوسكاره المنتظرة؟ ولماذا على الصحافة العربيّة أن تشعر بالامتنان لوجود من يمثّلها في هوليوود؟ مجرّد طرح الأسئلة السابقة كموضوع للنقاش والأخذ والردّ، كما حصل خلال الأيّام الماضية، أمر يختصر الدرك الذي وصلت إليه معاييرنا المهنيّة. مجرّد التفكير بتبرير المشهد المحزن لصحافيّة غير كفوءة، حوّلت نفسها إلى أضحوكة، يقول الكثير عمّا باتت الصحافة العربيّة تمثّله من فشل، وترهّل، وخروج تام عن الزمن ومتطلّباته، وافتقاد للموهبة والقدرة على التجديد.
عند النقاش في معايير المهنة عربيّاً، كثيراً ما تجري الإحالة إلى أمثلة يحتذى بها في الصحافة الأجنبيّة. تعزّز المؤسسات الصحافيّة العالميّة من ثقافة الكفاءة، إلا أنّها تعاني بدورها من أزمات تهدّد وجودها. الخوض في المقارنات، ليس زاوية مجدية للبحث في شؤون القاع الذي بلغته صحافتنا العربيّة. مستقبل المهنة كمهنة، نقاش عالميّ، ولا يرتبط بجنسيّات. لكنّ المقارنة أحياناً قد تكون مفيدة، خصوصاً على مستوى ثقافة المحاسبة، ومفهوم التعاطي مع الخطأ وكيفيّة تجنّبه. الخطأ في الصحافة أمر وارد جدّاً، بدءاً من الأخطاء البسيطة في كتابة أسماء العلم، أو الأخطاء الطباعيّة والإملائيّة، وصولاً إلى الخطايا في تحوير أحداث وأرقام، أو الكذب المتعمّد، أو السرقة الأدبيّة. قد تنتج الأخطاء عن خلل في دورة العمل لناحية مرحلة المراجعة أو التدقيق، أو قد يكون الخطأ فرديّاً، حين يكلّف أحدهم مثلاً بمهمّة لا تتناسب مع كفاءته، ويرفض الاعتراف بأنّه غير مهيّأ لها، بفعل المنافسة الشرسة ربّما، أو لعدم وجود الكثير من الفرص المهنيّة، أو لمجرّد الغرور والادّعاء. ولأنّ كلّ ذلك وارد، تخصّص معظم الصحف الأميركيّة والبريطانيّة العريقة، زوايا لتصويب الأخطاء، في تقليد انتقل إلى مواقعها الالكترونيّة. وفي حالة الأخطاء الفضائحيّة، يطرد الشخص المعنيّ، كما حصل أواخر شباط الماضي، حين استغنى موقع «وايرد» عن صحافيّ أثبت التحقيق سرقته لمقالات من آخرين. والعام الماضي، أزاحت شبكة «أن بي سي» الأميركيّة نجمها براين وليامز عن الشاشة بعد اكتشاف كذبه بشأن تغطيته حرب العراق في العام 2003. أمّا نحن، فعلينا أن نشكر شيماء ونتعاطف معها لأنّها وضعت نفسها في موقف تافه خلال حفلة الأوسكار. وعلينا أن نشكر مثلاً بعض مراسلي المحطّات التلفزيونيّة اللبنانيّة على حسّهم التجديديّ والتحديثيّ، خصوصاً حين يتعلّق الأمر بالتقاط «سيلفي» مع السياسيين في كلّ مناسبة، أو الخروج من مجاري الصرف الصحيّ، أو إنجاز تقرير مضحك وسريالي عن المخلوقات الفضائيّة، أو تسريب أخبار غير مدقّقة من مصادر مجهولة… وعلينا أن نغضّ النظر عن آلاف السرقات الأدبيّة للمقالات، وثقافة انسخ وألصق، لأنّ «عصر السرعة» يتطلّب منّا المواكبة مهما كان الثمن.
قد لا تحتمل أزمة «وات أباوت ذي أوسكارز» أن نعيد بسببها النظر في حال الصحافة العربيّة. ليست الحادثة أكثر من مؤشّر يضاف إلى مؤشّرات أخرى، تثبت أنّ الأفق بات يضيق أكثر فأكثر أمام أيّ طموح لصحافة عربيّة سبّاقة، ومتجانسة مع روح العصر، وغير منفصلة عن هموم الناس، وقادرة على تطوير أدواتها وخطابها ما يتناسب مع منصّات الإعلام الحديث. يرى الكثيرون في ذلك الطموح ترفاً في منطقة يدمّر فيها الإنسان، وينخرها التطرّف والعقليّات المتحجّرة، ويسجن أدباؤها بتهم
«خدش الحياء»… لكنّ الصحافة لم تعد تمتلك خيارات أخرى كثيرة للصمود.سناء خوري
صحيفة السفير اللبنانية 5-3-2016

Facebook Comments

POST A COMMENT.