بنات المحار

من يعتلّ بالحبّ أنا لا أواسيه أو أعاتبه
بل أشكر من بالهوى قسى عليه و عذّبه
فالرّوح لا طيب يعطّرها إلّا من أصابه الوله
و لاخلّ مثل الذّي علّم القلب قلمه و أبكى حممه..
فتحت الباب السّادس للقطار الذّاهب إلى باريس لحضور المعرض الذي فتح أبوابه للزوّار، قبل أيام، بعنوان «اللآلئ… التاريخ الطبيعي»
جلست قرب النّافذة و أنا أتخيّل أشكالها وأنواعها بحسب القليل من المعلومات التّي أمتلكها مفكّرا في التّفاصيل والعناوين التّي قد تصلح لمقالتي الأسبوعيّة
الطّقس كان باردا جدّا إذ لَثَمَني الصّقيع ونحن على أبواب الميلاد، كان القطار محتفلا و الأشجار على الأرصفة لبست حلّتها وزيّنت شعورها بالأضواء والحرير وكأنّها تعبد الإله “نور” من جديد أو بالأحرى تغنّي لنجم الحياة السّعيد …وكأنّ الربّ يدعو لنا ويقول لها في هذا العيد المجيد: ألبستك الشّمس بأنوارها والرّياح بأوتارها والأمطار بمائها و اللّوحات بأشكالها ومراحها لتري البشائر في فساتينها العائمة.. والفراش بألوانه يراقصك كالأميرة النّائمة على فِراش من سحاب بريش الملائكة.. فتسُكرين الكلام المباح وتضاجعين نور الصّباح.. فتغرين البشر بذبذبات عيونك دون اجتياح وتغلين دماء الشّوق و البرد عندهم دون قراح.. فتنزف دموع الفرح من سمائهم كما في البراح وينعكس ضوء عيوني في فضائهم .. فينجب الحبّ يسوع أفراح…
فتّشت في ثيابي عن القدّاحة لأشعل سيجارتي علّها تساعدني على تمضية الوقت وعلى التّفكير. ولكن ما وجدتها، فالتفتّ علّ أحدا يعيرني الفتيل… كانت الشّموع تحيط بي وأنا معكتف في مجلسي وبين فكرة وفكرة… رأيت قمرا جالسا مغمض العينين في مقعد يبعدني بنحو مترين…. غاب كلّ البشر في دقيقتين والتهمني دخان سيجارتي الجديدة في نفسين وصرت أنا حارس الأقمار ببوصلتين يتيمتين وحيدتين…
كان الملاك نائما غير آبه بي أو بالشّباب العابث بالأبواب أو بالطّريق الفّار من الازدحام الإقطاعي..
تركت مكاني وقرّرت أن أستأنس بالنّار الحارقة في ذلك الرّكن الزّجاجي… تثبّتت في الفرو المغطّي قممها و بسيطتها..ما رأيت إلّا وجهها المتعرّي: أصداف محارها تبعث عرق لآلئها وكأنّها تبعدني، جنائن خدّها متفتّحة ورودها تبعث شدى ورحيقا يحرقاني كلّما ابتسم ثغرها وكأنّها تراني أراقصها في حلمي..
لم أستطع مقاومة جاذبيّة أرضها، فارتأيت أن أكون “تفّاحة نيوتن”: اصطنعت سقوطي و هويت.. ففتحت أصدافها ورأيت لوهلة في لحظة لمحة عن اللؤلؤة السوداء… وكأنّ آلة الزّمان والمكان حوّلتني إلى أخطبوط في جزيرة هايتي يحاول اقتحام مجرّة شفاه محارها السّوداء…
إلهي، يا خالق العينين وباعث الأكوان…
إلهي، يا من تنذر بالصبّر كلّ مؤمن وإنسان…
إلهي، بشّرتني بالعيد وبأمل وليد أحزاني…
ذاب الموت في ليلتي وصرت صائد ريم وغزلان…
اجعلني منجّما أو قارئا للطّالع والكفّ والفنجان…
أو ساحرا يتقن سحر الأميرات والعاشقات أو بهلوان…
يلاعب غادة الأقصوصات والأغنيات، خليلة الزِّمان والمكان….
علّها سيّدتي، تطلبني، فأفرش الزمرّد رمال خطوطها عند الرّحمن…
فقد فاقت أجراس نَفَسِي ولهثات قلبي سرعة ضوء ألف ومائة حصان…
سألتني (باللّغة الفرنسيّة و عربيّة كانت لَكنتها): أتعرفني؟
أجبت: لا..( لما لم أكذب؟ لما لم أدّعي أنّها تشبه زميلتي، قريبتي، أختي أو حبيبتي الغائبة الضّائعة؟ لما كنت جبان لحظتي وانا سيّد الأزمنة وقتها ورجمانها؟).
أعادت السّؤال: أتعرفني؟
فقلت: نعم أنا شادي الخطّاب، عربيّ، مقيم بفرنسا منذ ستّ سنوات بمدينة أميان، عيد مولدي في اليوم الرّابع من الكانون الثّاني، أعزب وصحافيّ محرّر صفحة الثّقافة بصحيفة “الشّرق الأوسط”.. وأنت؟
اندهشت من ردّي السّريع والدّقيق وكأنّها لا تعرفني…
صمتت ثمّ نطقت وأنا كان الحرّ يؤرّقني والهشيم يتآكلني وناره: أنا درّة…
– عرفتك، أنت عربيّة مثلي واسمك يشبهك بل يعرّفك…
احمرّ ربيعها ونطق بابتسامة شكر وخجل ووجل وكأنّني شمس أضاءت شطآنها أو مهراجا رأى انبعاث لآلئها، فاشتراها بل غازلها وأرجعها إلى بحارها حرّة طليقة: بعثتك في أكواني طائرا حرّا، عشقا يرسم بالأزرق الدّافئ جدراني … يبعث نورا في آخر نفق أرجواني.. بعثتك أبيات شموع تضيء أشعار قرآني.. فأصبحت حركات تزيّن بالتّنوين كلامي… بل صرت العشرين من عمري.. تنثرين عليّ كالصّغر والشّباب والنقاء والرقيّ النّيازك المسافرة في الكون دون عنوان.
عرفت وأنا معها كيفية تكوّن اللؤلؤ وأماكن تواجده وطريقة زراعته وألوانه وأسماءه وتصنيفه.
فكنت أنا صدفة بحيرة بيوا وكانت هي الملكة التّي تزيّن قلادة ماري انطوانيت والثّوب الذّي يعلّق فيه بروش الملكة فيكتوريا ، والأذنان اللّذان تعلّق فيهما أقراط المصمّمة الفرنسية كوكو شانيل ورأسها تاج الملك شارلز الخامس.
أغرقتني في محيطها الهندي، فكنت الخليج الفارسيّ وخليج المنار وخليجها المكسيكيّ والعربيّ… فأسميتها:إقماشة …
سافرت وأنا معها إلى العالم. جلست جوارها لمدّة قصيرة، فأدمنتها. دعوتها إلى المعرض، فقالت: استيقظ يا سيّدي، هذه آخر محطّة، وصلنا.
(رحاب السوسي)
تونس
23-12-2008

Facebook Comments

POST A COMMENT.