تُوَلِّد أخبارُ سوريا هذه الأيّام الانطباعَ أنّ الحرب العالميّة الثالثة توشك أن تنطلق من أرضها، وأنّ ويلات أكبر وأكثر شدّة ووقعاً ستلي خمس سنوات من الدمار والمآسي. بالتوازي، يتصاعد تهييج النفوس عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي لدفع السوريين أكثر نحو تقسيم فعليّ بعدما تشرذمت البلاد.
الحرب الإقليميّة الدوليّة انطلقت عمليا منذ زمن، ولكنّ تمّ ضبطها كي يكون السوريون هم وقودها وأرض سوريا ميدانها. والتقسيم حصل أصلاً في النفوس قبل أن يتجسّد جغرافيًّا على الأرض.
الفرق اليوم هو أنّ لعبة الأمم أضحت أكثر جلاءً، وأنّ جزءاً منها ارتدّ على الدول التي انخرطت بها بحيث بات صعباً الإبقاء على وتيرة الاستنزاف السابق، فتوجّهت لحسم الوضع بطريقةٍ أو بأخرى. تلك هي دلالة قرار مجلس الأمن الأخير والجدول الزمنيّ الذي وضعه من أجل «الحلّ». لكنّ عناصر هذا «الحلّ» ما زالت غير مكتملة المعالم، حيث لا تزال هناك صعوبة في إخراج جميع اللاعبين الإقليميين والدوليين رابحين، بعدما استثمروا الكثير في تغذية الصراع. ومن هنا يشتدّ التصعيد والتهييج الإعلاميّ: كلٌّ يحشد قواه لمعركة… الحلّ.
السوريون لا حول لهم وغدوا خارج اللعبة. السلطة تذهب مزهوّة إلى جنيف، في حين تعرف حقّ المعرفة أنّ الحلّ سيُفرض عليها من قبل حلفائها قبل خصومها. و «المعارضة» تغرق في مهاتراتها ومزايداتها التي ليست سوى انعكاس لمواقف ومصالح الدول الداعمة لها. تقبل الحوار مع السلطة، بل ترضى بتقاسم الحكم معها، في حين ترفض الحوار مع أطرافٍ سوريّة أخرى. وبالتالي تستبعد فكرة تشكيل وفد موحّد للتفاوض، والعيش يوماً بوئامٍ مع هذه الأطراف الأخرى في بلدٍ واحد.
لا بدّ اليوم من وقفة صريحة للسوريين مع ذاتهم، احتراماً لذاتهم ولتاريخهم ولتضحيات شهدائهم وجرحاهم، وواستبعادا للذلّ والحرمان اللذين يعيشهما نصف شعبهم المهجّر وللمعاناة التي يعيشها النصف الآخر، من كلّ الأطراف.
كفى حرباً! لقد استنزفت البلاد مواردها وثرواتها، بحيث لم يعد للمنتصر بين السوريين ما يربحه. والسلطة كما المعارضة المسلّحة لا تستمرّ في حربها إلاّ بفضل الدول التي تساندها وتمدّها بالعتاد والذخيرة. وهذا الاستمرار يصب حكما في مصلحة «داعش» و «النصرة».
كفى مهاترات! وليعد السوريّون إلى حسّهم النقدي الذي كان بالأمس يدفعهم إلى الاستماع على السواء لمن يدّعي نصرتهم ولمن يعتبرونه عدوّاً، ليكوِّنوا رأيهم، وليعودوا إلى حسّهم الوطنيّ ويتوقّفوا عن نعت بعضهم البعض الآخر بشتّى النعوت وبمختلف ألوان الخيانة، من دون محاولة تفهّمٍ لما دُفِع هذا الآخر إلى أخذ هذا الموقف أو ذاك. هذه المهاترات هي التي قد تدفع إلى التقسيم، وليست رغبة هذا وذاك.
كفى ارتهاناً للدول! السلطة ارتمت في أحضان دول للحفاظ على سلطتها وهيمنتها. و «المعارضة» ارتهنت لدولٍ أخرى تعدها بالسلطة… والحريّة. وكأنّ الحريّة يُمكن أن تأتي من دون سيادة. وكأنّ الدول التي تدعمها هي جميعها سيّدة على أرضها. فكيف يهبّ من ليس حرّاً وسيّداً… من أجل الحريّة والسيادة؟
كفى انتقاصاً من إرثكم وتاريخكم! بالتأكيد لم تكن فترة الانتداب الفرنسيّ هي الأمثل. ولا كانت فترة الاستقلال الأوّل والديموقراطيّة الناشئة ورديّة ومستقرّة. ولم تكن سمة فترة النهوض الوطنيّ هي دكتاتوريّة حصرا. ولم تكن تقلّبات سوريا على مدى أربعين سنة عبثيّة، وإنّما تجارب خضناها سويّة وصقلت ما يجب أن نقوم به معاً في المستقبل وما يجب أن ننبذه.
وكفى خطاباً خارج الواقع! لم نعد اليوم أمام ثورة حريّة وديموقراطيّة، بل هي حربٌ أهليّة تغّذيها لعبة الأمم.
كفى… كفى… كفى.
تعالوا جميعاً إلى كلمة سواء بيننا. نوقف فيها هذه الحرب العبثيّة. ونحاول معا أن نحافظ على بلدٍ موحّد لا تتقاسمه الدول، خدمة لمصالحها. بلد موحّد نحترم فيه هويّاتنا المتعدّدة ضمن هويّة وطنية جامعة، ومن دون إقصاء أحد. والحريّة ستأتي بعدها وإن بعد حين… هذا هو قدر الثورات.
سمير العيطة
20-02-2016
جريدة السفير اللبنانية – صفحة رأي
POST A COMMENT.