ثمّة عبارات تتردد في أدبيات الصحافة، تزعم أن الصحافي هو “مؤرخ اللحظة”. وهذه العبارة صحيحة في جانبها المهني، وليست صحيحة في جوانبها الأخرى. فالصحافي لا يختلف أحياناً عن رجل الاستخبارات الذي يستورد الحقائق، ويصدِّر الأكاذيب. ففي صيف 2014، انتشر خبر يقول إن هيلاري كلينتون أوردت في مذكراتها أن أميركا هي التي أسست “داعش”. وتطاير الخبر في كل مكان، وراح “المحللون” يتفننون في انتصاراتهم الإعلامية على غرار: “أَرأيتم؟ أَلم نكن نقول لكم هذا؟”. ولم يكلف أحد من هؤلاء نفسه فحص مذكرات كلينتون التي تبينَ عدم وجود مثل هذا الكلام فيها على الإطلاق. وفي أحد تصريحات بيار الجميل، قال: “نحن لا نرغب في أن ينسحب السوريون من لبنان”. وعلى الفور تدخل كثير من الساسة لإضافة كلمة واحدة فقط إلى التصريح هي كلمة “الآن”، كي تصبح الجملة: “نحن لا نرغب في أن ينسحب السوريون من لبنان الآن”.
قليلون جداً هم الصحافيون الذين كتبوا مذكراتهم، وفضحوا أسرار المهنة. ومن الذين تجرأوا على ذلك ناصر الدين النشاشيبي في كتابه “حضرات الزملاء المحترمين” (القدس 1995)، وإبراهيم سلامة في كتابه الممتع “غداً سندخل المدينة” (بيروت، 2008). وسلامة من أظرف الصحافيين العرب وأجرأهم، وهو يعترف أنه كان يعمل علناً في جريدة المحرّر التي كان يصدرها القوميون العرب، ويعمل سراً في جريدة الصحافة التي كان يصدرها البعثيون، وكان يهاجم غسان كنفاني في “الصحافة”، ثم يلتقيه في اليوم التالي، ليهمس له أن الذي هاجمه ربما هو منح الصلح أو إلياس الفرزلي. وكان تمويل الصحف اللبنانية وشراء الصحافيين مقصوراً، في خمسينيات القرن المنصرم، على بطرس الخوري وهنري فرعون ثم إميل البستاني. لكن، بعد الصعود المدوّي لجمال عبد الناصر غداة العدوان الثلاثي على مصر في سنة 1956 صار أنور الجمل، وهو الملحق الصحافي في سفارة مصر في لبنان، يدير “الأنوار” و”المحرر” و”اللواء” و”السياسة” و”الكفاح” و”الحرية” و”الحوادث”، فيما أدار السعوديون “الحياة” و”الزمان” و”الديار” و”الرواد” و”الجمهورية”. وكان علي الشاعر، وهو الملحق العسكري في السفارة السعودية في بيروت نظير أنور الجمل. أما سماسرة شراء الصحافيين لمصلحة بعض دول الخليج فكانوا أكرم عجّة وعدنان خاشقجي ووفيق سعيد ورجا صيداوي وكمال أدهم، وهؤلاء جميعاً سوريون، أو من أصول سورية. وحين جاء قدري قلعجي، وهو شيوعي سوري سابق، إلى بيروت، ليدير حملة لتأييد الكويت في وجه عبد الكريم قاسم، وجد أن العراقيين سبقوه في الدفع إلى جريدتي النهار والأنوار، فاكتفى بالدفع إلى كامل مروّة في “الحياة”، وإلى سليم اللوزي في “الحوادث”.
في إحدى المناسبات، قال الشيخ مكتوم لسليم اللوزي معاتباً: أنتم الصحافيون اللبنانيون لا تأتون إلى بلادنا إلا من أجل المال. فأجابه: “أنت غلطان يا سيدي. نحن نأتي إليكم للتمتع بثقافتكم وأدبكم وأبحاثكم العلمية”. وفي كلام اللوزي هذا كثير من التبجح والادعاء الفارغ. وسليم اللوزي كان ينوي في سنة 1979 أن ينشر مذكرات ثريا خاشقجي، وفيها صور خليعة، وفضائح عن بعض الأمراء العرب. وطلب عدنان خاشقجي إلى ناصر الدين النشاشيبي معالجة الأمر، فطلب اللوزي مئة ألف دولار ثمناً لسكوته. وهكذا كان. ويؤكد إبراهيم سلامة أن محاولة نشر هذه المذكرات بطريقة ابتزازية هي التي أودت بحياة سليم اللوزي.
الصحافيون أصحاب الصحف هم مَن كانوا يبيعون الأكاذيب والحقائق ويقبضون ثمنها. أما الصحافيون العاملون فبعضهم كان خادماً للكذابين، ويكسب رزقه بعرق ركبتيه، وبعضهم كان “ينقُّ”، لأن لا أحد يدفع له، والقلة الباقية عاشت من دون أن تبيع أقلامها، ومات أفرادها من غير أن تودّعهم أقلام مَن كانوا يقبضون على ضهورهم.
صقر ابو فخر
العربي الجديد
16-2-2013
POST A COMMENT.