التزكية كما التمديد في الانتخابات البلدية: نهج يشرّع نفسه في الاقتراع عن الناس

أحمد بعلبكي //

 تتشكّل الجماعة الطائفية من مجموعات تقوم كل منها على انتماءات قرابية او جهوية او اجتماعية مهنية تتشارك، ولو بتفاوتات، بإحساسات ذاتية بانتماء ديني متوارث يترسخ من خلال تميُّز باجتهاد متمذهب في الدين وفي شعائر التديُّن. ولا تتشارك، عوامها كما خواصها، بالضرورة بالميول السياسية. والطائفة الشيعية، على سبيل المثال كما في مجمل الطوائف الإسلامية، تنقسم بين أكثرية «تنتخب» منذ ثلاثة عقود كتلتَيْ التحالف الشيعي، يقودهما الحزبان اللذان يديران حصة الطائفة في مؤسسات الحكم وإداراته، وبين أقلية تتنوع في معارضاتها، كما في بقية الطوائف، وقد ضاقت في صفوفها الميول إلى التحزبات القومية واليسارية وضغوطها الإصلاحية المتعلقة بمفاهيم متفاوتة للدولة ومدنيتها في مواجهة حكومات التوافق الطائفي ونهوجها في الحكم. حكومات تكيّفت مع التزامات اقليمية ودولية زادت من تفكك الدولة ومن تعرُّض سيادتها وتوحد مكوناتها، فزادت في تهافت المرتكزات الدستورية والقانونية الناظمة خاصة لسلطتي البرلمان والوزارة، وفي جنوح زعامات الطوائف إلى النأي عن التزامهم وتقيُّدهم باستحقاقات تجددها. وزادت في ترجيح اعتماد ميثاقية التوافقات، المفروضة على ممثلي الطوائف، في ظل رعايات دولية وإقليمية. رعايات ما كان يمكن بدونها أن تحصل خمس دورات انتخابات لرؤساء الجمهورية من أصل عشر مرّت على الاستقلال. فكان أن انقلبت سلبيات ميثاقية التوافق الطوائفي أولاً على حساب رصيد المارونية السياسية التي سبق لزعاماتها أن تطلعت اليها في برلمانية توافقية مفرطة في ليبيراليتها، وذلك تحت تأثير انغلاقها الثقافي ـ السياسي في مواجهة التحركات الشاخصة الى البناء الديموقراطي المدني للدولة. وكان هذا الانغلاق على الرغم من تميُّز نُخبها، كما النخب المسيحية الأخرى، بأسبقية تحصيل الثقافة الليبرالية المؤدية في المجتمعات المتطورة الى مثل هذا البناء.
لقد سهّل التوافق بين الزعامات المسيحية والإسلامية الربط الايديولوجي بين وجود الكيان وبين ليبرالية «الجسر الحضاري» الذي روجت الأنتلجنسيا والكنيسة المارونيتين لمفهومه بين أوروبا وبين المشرق العربي، باعتباره جسراً يُعزِّز دور لبنان المُختزل الى الوساطة التجارية والخدمية مع الداخل العربي. هذه الوساطة التي تخطت تطورات السوق اللبناني والأسواق المشرقية، بعد ربع قرن من الاستقلال، قدراتها الثقافية والمالية على القيام بأدوارها.
يُضاف الى ذلك انه في ظل البرلمانية الاقتصادية المُفرطة تهافتت دستورية الحكم مع توسع الأدوار السياسية الإقليمية المُنوطة بزعامات الطوائف، وقد تأهل البعض لها بفعل امدادات خارجية، أتاحت لكل منها قدرات مادية وتعبوية كافية لتمكين جهازها الحزبي من استقطاب واستنفار جمهورها الى مواجهات تتجاوز حجم طائفتها وحجم تمثيلها في الحكم.
وهذا ما يُلاحظ في تُمكّن زعامة الطائفة الدرزية على سبيل المثال، وهي الأصغر حجماً بين الطوائف الست الأكبر في لبنان، من أن تلعب دوراً حاسماً أحياناً في تقرير مصير الحكومات والتحالفات وفي تحديد مصير استحقاقات وتشريعات أســاسية كقانون الانتخابات النيابية والإصرار على تقسيم الدوائر الانتخابية بحيث يُراعى تمكين التجمعات الدرزية في ثلاثة من أقـــضية جبل لبنان من أن تــشكل ثقلاً مميزاً في انتتخاب مرشحي الزعامة الجنبلاطية دروزاً كانوا او غير دروز يلتزمون بتوجهاتها.
لم يقتصر تقطيع الدوائر الانتخابية ليُتطابق فقط مع حدود المناطق الدرزية، لا بل كان التوافق على تقطيعها، وعلى امتداد عقود، يُراعي المصالح المتوارثة لأغلبية زعامات الطوائف. وهذا ما عزّز من توافقاتها عبر المحافظات اللبنانية وانعكس تعزيزاً بارداً ومُستديماً لمقومات النظام الطائفي على الرغم من تورطها احياناً، سواء لأسباب داخلية او لدوافع خارجية، بمواجهات عسكرية. وهكذا كان للنظام الأكثري في الانتخابات النيابية كما البلدية وللتوافق الطوائفي على «تفصيل» الدوائر الانتخابية، دور أساسي في صمود النظام الذي تُبدع النخب المستفيدة من طائفية أُسُسه على الرغم من التظاهر بإدانته. وهي النُّخب التي تصنع التزكيات والمبايعات لمفاتيح زعاماتها الطائفية وتعمل على ترسيخ آليات الإفقار وإقصاء المعارضين لإفسادها بما يُتيح لها فرض التزكيات والمبايعات في الانتخابات البلدية. ولكن لا بد من التذكير هنا بأن توازن توافقات زعامات الطوائف الأقلّوية أسّس للتوافقات على تبعيات متوازنة حيال القوى الإقليمية والدولية. تبعيات اضطرت هذه القوى، من اجل حماية مصالحها وحضورها الاقليمي، ان تلـــتزم في لبنان بتوازن احتـــضاناتها للزعامات المتوافقة خاصـــة في ظروف تدهور أوضاع المنطقة وبعد الحرب الباردة.
يُضاف الى أهمية توازن الاحتضانات الخارجية لزعامات الطوائف ان هيمناتها على عوام طوائفها لم تقتصر على التوازن الملموس لقدراتها العسكرية والسياسية والاقتصادية المرتبطة بتبعياتها الاقليمية والدولية وحسب، بل هي تستند أيضاً الى ناظم ثقافوي يتجسد في الطبع الأقلوي لدى الطوائف اللبنانية، وبالتالي إلى ما يُمكِّن أحزابها، المتدينة إجمالاً، المستقطبة غالبية وجهاء العائلات وأصحاب الأعمال وكبار الموظفين في مناطق سيطرتها المُعلنة فوق طرقاتها وساحاتها، من ضبط الولاء السياسي والانتخابي في القرى والمدن الريفية، حيث يُقاس ولاء الأفراد المناصرين، في نسيج العلاقات الضّيقة، بمدى رصدهم لميول وتطلعات بعضهم بعضاً، رصداً ينقلونه ويسلفونه للمفاتيح المحليين للزعامة تأملاً منهم بالحصول على تكسُّب مشروع او غير مشروع.
وهنا نُشير ايضاً الى اضطرار الزعامات الشيعية خاصة للإكثار من استنابة الداعين على المنابر ليس لتكريم شهداء المقاومة الأبطال فقط، بل ولخطابة تعبوية تفرضها تنظيماتها الحزبية المحلية في جميع مناسبات التعزّية، كما في مناسبات تُكثر منها لاستجلاب الأهالي الى الاحتفال بتكريمات سنوية لطلاب القرى الناجحين جامعيين وغير جامعيين. أو في تنظيم مهرجانات تكتظ بالأهالي المدعوين لحضور التبريكات المتلفزة ببلوغ سن التكليف الشرعي لطفلات تفرحن وأُمهاتهن بفساتينهن البيضاء.
في مثل هذا السياق التعبوي تجتهد التنظيمات الحزبية بتزيين شوارع المناسبات ومنابرها تزييناً لا تفوته يافطات تتجدد فيها ركاكة ولاءات التجار او وجهاء العائلات ولا يُفوّته دعاة المنابر المكلّفين بتواصل مستديم مع الأهالي وقد قال فيهم ابن خلدون منذ ستمئة عام ونيّف: «إن الاستعانة اذا كانت بأولي القربى من أهل النسب أو التربية أو الاصطناع القديم للدولة كانت أكمل لما يقع في ذلك من مجانسة خَلقِهم فتتم المشاكلة في الاستعانة…» «أما الدعاء على المنابر في الخطبة فكان الشأن الأول عند الخلفاء ولاية الصلاة بأنفسهم… فلما حدثت الأبهة وحدث في الخلفاء المانع من الخطبة والصلاة استنابوا فيهما، فكان الخطيب يُشيد بذكر الخليفة على المنبر تنويهاً باسمه ودعاء له بما جعل الله مصلحة العالم فيه…»(]).
لقد أدّى مثل هذا النهج للزعامة بالضرورة الى فرض آحادية التمثيل بالتزكية أحياناً كثيرة، ولكنه تمثيل لم يحظ في غالبية البلديات، في الانتخابات السابقة (2009) بمشاركة في الاقتراع تزيد عن نسبة 60% من المسجلين على لوائح الشطب. وقد كتبنا حينذاك مصنفين فئات المقترعين داخل هذه النسبة على الشكل التالي: خمس منهم بالتمذهب وخمس بالتنفع وخمس بالتقية أو استتاراً بالمألوف وخمسان ينتظران ظروفاً مختلفة،  والله أعلم.
مقدمة ابن خلدون، منشورات دار الكتاب العربي، طبعة ثالثة، بيروت، صفحة 224 و ص 253 ـ 254.
جريدة السفير 12-2-2016

Facebook Comments

POST A COMMENT.