التلفزيونات اللبنانية :الرقص على حافة الهاوية
وفاء أبو شقرا ||
في العام 2008، شاهد الصينيون لحظة إضاءة شعلة الألعاب الأولمبية في أثينا، بفارق عشر دقائق تأخير عن مشاهدتها من سائر أنظار المعمورة، بسبب البثّ المؤجّل المتعمّد الذي وفّرته بعض التقنيات التكنولوجية، كي يتمكّن المعنيّون من حذف بعض صور الاحتجاج «لمراسلين بلا حدود» في المدينة، ضدّ نظام الحكم في بكين.
هذه التقنيات التي اقتناها التلفزيون الصيني، كانت ابتُدعت ونزلت الأسواق تباعاً منذ الظهور المدوّي لثدي المغنية الأميركية جانيت جاكسون على شاشة «سي بي أس» أثناء برنامج يُبث مباشرة على الهواء، ما كبّد هذه المحطة غرامة مالية كبيرة، وشكّل صدمة موصوفة لجمهورها المتلقي.
تنبّه القائمون على المحطات التلفزيونية الغربية منذ التسعينيات، للانزلاقات التي يمكن أن تطرأ أثناء «البث المباشر»، وتجنح برسالة هذه الوسيلة الجماهيرية الإعلامية الاستثنائية، بأهميتها وخطورتها، إلى أماكن غير محسوبة العواقب. وتحاشياً لذلك، أدخل التلفزيون الفرنسي أكثر من تقنية يستنفرها عندما يكون النقل مباشراً (montage à la volée, serveurs vidéo, réseaux d›échange à très grande vitesse)، بهدف إحداث تأخير اصطناعي يتيح المراقبة المسبقة والتدخّل تالياً لحذف ما قد يصنّفونه إخلالاً معيناً في طبيعة المادة الإعلامية المبثوثة ومحتواها.
لا يُخفي الصحافيون الفرنسيون ميلهم الكبير لتسجيلٍ مسبق لموادّهم، كي يتمكنوا من «ضبط إيقاعٍ كامل» لكل ما يُقال ويُعلن ضمنها، ويتجنّبوا والقائمين على محطاتهم، أيَّ شطط قد يُخرج الأمور عن السيطرة. هي الخشية إذن من «مخاطر» البث التلفزيوني المباشر، أكانت على خلفية عدم خدش الحياء الأميركي أو عدم إزعاج حكمٍ صيني «حديدي». وهو الحرص على توخي الحيطة والحذر إزاء كل ما يمكن أن يصدر خلال حدوث الحدث الذي تقوم الكاميرا بالتقاطه بمَشاهد حيّة لحظة وقوعه، مختصرةً الزمان والمكان بحركتها، وتنقله إلى المشاهد الذي يرى إلى الصورة أنها الواقع الأكيد. فهذه «الصورة التلفزيونية المطلقة»، كما يصفها الكاتب الإعلامي الفرنسي جان مارك فيرنييه، هي التي تشكل الرأي العام اليوم، بدرجةٍ كبيرة، وإلا لَمَا رأينا هذا التنافس المحموم بين الوسائل الإعلامية لنقلها.
ماذا يعني البث المباشر بالنسبة للصحافيين والمراسلين بشكل خاص؟ يعني أن يحرّر (يكتب) مادته في موقع الحدث مع ما تحتاجه، من معلومات ومصادر معلومات وشهادات، ويقدّمها بصوته وصورته، أيضاً، من موقع الحدث وخلال وقت محدود (بحسب ما تتطلبه طبيعة الكتابة للتلفزيون) كما لو كان سيسجلها في الاستوديو. لا أكثر ولا أقل. هذا ما تفعله تلفزيونات دول ما وراء البحار التي نقتدي بها عادةً. وهذا ما فعله التلفزيون الفرنسي، المفجوع وجمهوره، ليل الجمعة في 13 تشرين الثاني 2015 وقبله نهار الأربعاء في 7 كانون الثاني 2015.
في فرنسا، التي لا تدخل في يومياتها مثلنا الأحداث الأمنية والمعارك والقصف والانفجارات والمطاردات البوليسية في الشوارع والمفخّخات البشرية في الأحياء السكنية، لم يعتبر الإعلاميّون ما جرى في هذين اليوميْن الأسودَيْن غير المسبوقيْن، حدثاً استثنائياً لدرجةِ فتح الهواء «على مصراعيه» للكاميرات أو لإطلاق العنان لمواهب مراسليهم كي يُدلوا بأيّ دلوٍ يريدون. فتحوا الهواء وأقفلوه، محتسبين الدقائق والثواني على الإنتاج المباشر لصحافييهم، وأيضاً على تصريحات المسؤولين، على أنواعهم ومستويات رُتبهم، والذين، للإشارة، لم نلمحهم في الشوارع متضامنين أو متوعّدين، بل تركوا الساحات لمن يجب أن يملأها: رجال الأمن والمسعفون.
لم يلاحق أي ميكروفون مراسل جريحاً في مستشفى، ولم يخطر ببال أي صحافي أن يسأل مراهقاً عن الرسالة التي يريد إيصالها للحكّام، أو طفلةً عن تقديرها لعدد الأمتار التي تفصل بين منزلها وبين التفجير الانتحاري والوقت الذي انقضى بين هجوم وآخر، ولم يقتحم وجع أهل ضحية أو يركض وراء أي شهادة شاهد تافهة شكلاً ومضموناً. في باريس أيضاً، لم يتجرأ مصوّر أن يحرّك كاميراه لالتقاط مشهد محقِّقٍ جنائي يحمل بقايا بشرية في كيس لمعاينتها بعيداً عن موقع الجريمة، ولم تسعَ عدسته إلى أي «زوم إن» لإطار ينضح بدم وبقايا شعر بشريّ نثرته قوة التفجيرات. لم يقف أي مراسل لسبع دقائق ونيّف، في رسالة مباشرة من أمام مستشفى أو وسط حشدٍ من الغاضبين المتحفزين يدرك مسبقاً ما قد يتلفظون به من كلامٍ شعبوي وعصبوي وطائفي، بمجرد أن يلمحوا طيف كاميرا تُصوّب نحوهم. لم يعلُ صوتٌ واحد في أي رسالة مراسل مهما بلغت فظاعة الأخبار التي ينقلها، ولم يولول ليرفع من منسوب التوتر والقلق والخوف في كلامه. هو مدركٌ، لا ريب، لسطوة السلطة التي يمارسها من خلف هذه الشاشة الصغيرة، وللحقّ المعطى له باقتحام حرمة البيوت والإقامة بين قاطنيها الذين، يرون ويسمعون ويصدقون كل ما يقوله لهم. هو يعرف، ولأنه يعرف، يحذر ويراعي ويقتصد بالإيذاء. يعرف أنه يمارس على المشاهدين، ما يوصّفه عالم الاجتماع الفرنسي الشهير بيار بورديو «بالعنف الرمزي» الكامن وغير المرئي الذي يفرض على المتلقي شرعية دلالاتٍ ومعانٍ معينة، مخفياً علاقات القوة التي تمثّل الأساس الذي ترتكز عليه هذه القدرة.
عندما انتهى الحدث الفرنسي، انكفأت المحطات بكاميراتها إلى الاستوديوات لتفتح نقاشات وحوارات مع متخصصين أمنيين ومحللين وصحافيين ليقرأوا ما وراء الحدث، مع بعض الإطلالات السريعة للمندوبين والمراسلين في مواقع القرار والمتابعة. هذا حَدَثَ في فرنسا، أما هنا في لبنان، فشكّل النقل المباشر لمفخختَيْ برج البراجنة الانتحاريتَيْن يوم الخميس في 12 تشرين الثاني 2015 حلقة جديدة من الهستيريا التلفزيونية على الهواء. ولم يكن ينقصها إلا نقل أستوديو الأخبار من المحطة إلى الشارع، كما جرت العادة، مؤخراً مع كل «حدثٍ حار» مع اصطحاب كامل عُدة الاستعراض السخيفة. من سوء حظ التلفزيونات اللبنانية أنْ جاءتها فاجعة باريس لتُظهّر للعالم المهنية والأخلاقيات التي تعمل تحت سقفهما نظيراتها من التلفزيونات الفرنسية. كانت مصيبتهم أكبر في الخسائر وكانت مصيبتنا أكبر في التنكيل بإعلامنا وحِرفيته. يومٌ واحد فصل بين الزلزاليْن الداعشييْن في شوارع العاصمتيْن، وســنواتٌ ضوئية فصلت بين تغطيتيهما.
هناك تعبير يرنّ دائماً في أذني عــندما كان يحين وقت النقل المباشر من مكانٍ ما. السؤال الذي كان يُطرح غالباً على المراسل تحت الهواء «قدّي فيك تعبي هوا؟» إذن هذا هو بيت القصيد: تعبئة الهواء اللبناني. بماذا؟ لا يهمّ. أيُّ حدث يقيَّض له قطع جدول البث running order والبدء ببثٍ آخر غير مبرمَج: تغطية انفجار، جلسة عامة لمجلس النواب، تشييع مسؤول، تظاهرات، مؤتمر صحافي،… لا يهمّ. فلا صوت يعلو فوق البث المباشر. إنه الرقص على حافة الهاوية. اقتضى التنويه.
أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية
نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2015-11-16
Facebook Comments
POST A COMMENT.